الأمن الغذائي والمائي

مصر والمعادلة المرفوضة.. "النهر مقابل غزّة والبحر"!

ما بين وساطة أميركية محتملة لمنع تصاعد التوتّر بين مصر وإثيوبيا، حليفَي واشنطن في منطقة القرن الأفريقي، وسرديّة إثيوبيا الرسمية عن اكتمال بناء "سدّ النهضة"، على نهر النيل، تُبقي القاهرة خيار الحرب إلى جانب المفاوضات المجمّدة، لكنّها ترفض محاولة استدراجها إلى معادلة استبدال المياه الحلوة بالمالحة ومنح إثيوبيا موطئ قدم على ساحل البحر الأحمر.

مصر والمعادلة المرفوضة..

دفعت صورة مثيرة للجدل تجمع بين رئيسَي حكومتَي مصر وإثيوبيا، بحكم البروتوكول، خلال قمة "بريكس"، رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، إلى النقل مجدّدًا على لسان نظيره الإثيوبي آبي أحمد تعهّده بعدم المساس بحصّة مصر في مياه النيل.

وفقًا لمدبولي، فإنّ التصريحات الإثيوبية تحمل نوايا طيبة والأهمّ تحويلها إلى وثيقة، وهو ما كرّره هاني سويلم وزير الموارد المائية والريّ المصري، عبر تحدّيه توقيع إثيوبيا لاتفاق بعدم التسبّب في أي ضرر لمصر.

وعلى الرَّغم من إعلان أحمد أنّه سيدشّن سدّ النهضة رسميًا بحلول شهر سبتمبر/أيلول المقبل، ودعوته حكومتَي مصر والسودان للمشاركة في ما وصفه بهذا "الحدث التاريخي"، فقد نفت مصر اكتمال السدّ، واعتبرت في المقابل أنّ طريقة مخاطبة إثيوبيا للرأي العام العالمي مجرّد مناورات سياسية، ومحاولة لتحسين صورتها الذهنية، بسدّ غير شرعي يخالف القانون الدولي.

يتداخل تناقض إثيوبيا "الاستراتيجي"، مع شعورها بالتفوّق، وبأنّ لحظتها التاريخية قد حانت لكي تصبح قوةً إقليميةً مُهيمنة.

ومع ما يمثّله السدّ للقيادة الإثيوبية من أهمية كمشروع وطني، لا ترجّح فرضية وقف إطلاق السدّ حدوث حالةٍ طارئةٍ داخل إثيوبيا، تؤدّي إلى تفكّكها بالكامل، بينما تتفق مخاوف روسيا والصين والولايات المتحدة، على الرَّغم من تنافسها في منطقة القرن الأفريقي، على ضرورة الحفاظ على وحدة إثيوبيا.

عبر سدّ النهضة، تتحدّى إثيوبيا الهيمنة المائية المصرية الحالية، وتأمل تحقيق نفوذ جيوسياسي كبير بالتحكّم الكامل في تدفّق مياه النيل، لكي تصبح قوةً مؤثّرةً في الأحداث في الشرق الأوسط، وسيدة أفريقيا الجديدة.

ورقة الصومال مجدّدًا

كالعادة، استدعى الموقف الإثيوبي قمّةً جديدةً للرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، مع نظيره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في "العلمَيْن"، حيث عبّر الأخير عن تحوّلٍ استراتيجيّ تجاه القرن الأفريقي، عبر توجيه رسالةٍ ضمنيةٍ لإثيوبيا بأنّها حاضرة ميدانيًّا في محيطها الإقليمي.

وكرسالة دعمٍ قويةٍ للصومال، ألزم السيسي نفسه باستمرار التعاون العسكري والأمني والمشاركة العسكرية والشرطيّة في بعثةٍ أفريقيةٍ رسمية.

ومن المرجّح أن يقوم السيسي بزيارة إلى الصومال، ستكون هي الأولى له منذ تولّيه السلطة، والثانية لرئيس مصري بعد مرور 41 عامًا على زيارة قام بها سلفه الراحل محمد حسني مبارك عام 1984.


يُدرك السيسي أنّ مخاطرة مصر العسكرية يجب أن تكون محسوبة، لتفادي فشل التجربة الأميركية التي انتهت بانسحابٍ عسكريّ، وكان مبارك، وللمصادفة أيضًا، هو مَن نَصَحَ نظيره الأميركي آنذاك بيل كلينتون بذلك.

مناورات ترامب

واليوم، مثّل دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على خط وساطة سريّة لحلّ النزاع حول مياه النيل بين مصر والسودان وإثيوبيا، مفاجأةً سعيدةً وتعيسةً في آنٍ واحدٍ، للمصريين على الأقل!.

ذهب البعض إلى تفسير كلام ترامب على أنه نبوءة بلجوء مصر المحتمل إلى خيار عسكري، على اعتبار أنّه يُمهّد في ذهن الرأي العام الأميركي والعالمي، لفكرة أنّ مصر لو فعلت ذلك، فلها "مبرّر مشروع".

لكن ترامب، الذي لم يعلن ذلك بشكلٍ صريحٍ ومباشر، أراد وفقًا لديبلوماسي غربي في القاهرة تحدّث لـ"عروبة 22" أن تبقى "المسألة في دائرة التلميح السياسي، لا التصعيد العسكري الصريح".

النيل وقطاع غزّة

لم تكن هذه المرّة الأولى التي يتحدث فيها ترامب عن مشكلة مياه نهر النيل، إذ يراهن على فوزه بجائزة "نوبل للسلام"، بتحقيق السلام بين مصر وإثيوبيا، ما يعني توظيف أزمة السدّ كورقةٍ تُعزّز صورته المحلية والدولية.

وحذّر ترامب سابقًا من أنّ "مصر قد تفجّر السد" إذا لم يتمّ حلّ الأزمة، مُثيرًا استنكارًا واسعًا من إثيوبيا، وعاد مؤخّرًا ليصف تمويل بناء السدّ من قبل واشنطن بأنّه "غبي"، مؤكدًا أنّ المشروع يقلّل من تدفّق المياه إلى نهر النيل، ممّا يهدّد شريان الحياة المصري.

ثمّة مخاوف من أن تكون مساعي ترامب بخصوص سدّ النهضة، محاولة لمقايضة موقف مصر الرافض للخطة الأميركية - الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة إلى خارجه.

وفقًا لمصادر مصرية مطّلعة، لم يعرض أي مسؤول أميركي هذا العرض بشكلٍ مباشرٍ، لكن "واشنطن لن تتورّع عن استخدام كل حيلها" لتمرير هذا المخطط.

وبينما تعتمد مصر على النيل بنسبة 97% من مواردها المائية، وتبدو غير مستعدّةٍ لمقايضة أمنها القومي، تواصل إثيوبيا مشروعها المائي، وتلوّح واشنطن بورقة الوساطة، بين ما تراه إثيوبيا رمزًا وطنيًا، وتعتبره مصر تهديدًا وجوديًا.

لا يملك السيسي ترف التأجيل، إذ تقف مصر أمام خيارات جيوسياسية مُعقّدة، برفض مقايضة إثيوبيا مياه النيل بمياه البحر الأحمر، بموازاة التصدّي لصفقة ترامب المحتملة، عبر مقايضة مياه النيل بملف غزّة.

ومع ذلك، ففي اللون الأزرق لمياه النيل والبحر وعلم الصومال، تكمن معضلة مصر ونجاتها.. بشرط الحسم!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن