أربعون عامًا مرّت على رحيل الشاعر المصري أمل دنقل، ورغم ذلك لم يفقد بريقه بعد، بل يزداد حضوره عقدًا بعد عقد، وجيلًا بعد جيل، ليس فقط لأنه صاحب القصائد التي مسّت الوتر الحي لأبناء الأمة العربية، لكن لأنه آمن بقضايا قلّما نجد من يؤمن بها اليوم.
فمنذ تسعينيات القرن الماضي؛ انشغل معظم الشعراء العرب بالاشتباك مع ما هو يومي ومُهمش، أداروا ظهورهم للقضايا الكبرى، بحجة موتها أو تراجع اهتمام الجمهور بها، رغم أننا لا نزال "مُعلقين على مشانق الصباح"، ولم نصل بعد إلى "حرية أوطاننا"، وهي القضية التي عاش ومات دنقل منحازًا إليها ومحاربًا من أجلها.
كان أمل دنقل (1940-1983) يؤمن بأن للشاعر وظيفة اجتماعية وقومية، وأن استلهام التراث والأساطير لا يكون فقط لضرورة فنية، ولكن لتربية الوجدان القومي، فعندما يلقي الشاعر الضوء على التراث العربي والإسلامي، فإنه بذلك يُنمي لدى القارئ العربي روح الانتماء القومي، وروح الإحساس بأنه ينتمي لحضارة عريقة، وخير دليل على ذلك، استدعاؤه في قصيدته الشهيرة "لا تصالح" التى أحدثت صدى كبيرًا لدى الجماهير العربية ولا تزال حتى يومنا هذا لحرب البسوس التي قُتل فيها الملك كُليب، وهي القصيدة التي كتبها عام 1976، أي أنها كُتبت قبل زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات القدس في نوفمبر 1977، ومن هُنا اكتسبت القصيدة أهميتها، وتمّ التعامل معها على أنها إعلان رفض مبكر للتنازلات اللاحقة والمتعاقبة التي قدّمتها أنظمة التطبيع العربي لإسرائيل.
حاول الكثيرون على مرّ العقود الأربعة الماضية الطعن في شعرية قصائد دنقل كونها تتماس مع القضايا القومية الكبرى، لكنهم فشلوا، ونجحت قصائده في أن تصمد وتعبر في الزمن، وهو ما عبّر عنه ثوار ميادين الحرية في دول الربيع العربي الذين ردّدوا قصائد الشاعر الراحل وكأنه كتبها لهم خصيصًا.
في ظل ما يمرّ به الوطن العربي من محاولات لهزّ الثوابت القومية وطمس الهوية، تحتاج الأمة العربية إلى مَن هُم مثل دنقل من شعراء ينحازون إلى الحرية ولتراثهم العربي وهويتهم الثقافية، شعراء يعيشون حالة من النضال على مستواه الفردي وعلى مستوى الجماعة التي ينتمون إليها وعلى مستوى الإنسانية ككل، وحتى يظهر هؤلاء الشعراء سنظلّ نبكي بين يدي أمل دنقل على حالنا، وعلى حال الشعر وما وصل إليه.
(خاص "عروبة 22")