في العقد الأخير مثلًا، عزّزت هذه المنصّات من نفوذِها الاقتصادي وزادت من أرباحها ومبيعاتها، وعند قياسها من حيث رسْملة السّوق، نجد أنها تفوّقت على الشركات التقليدية التابعة "للاقتصاد القديم"، هذا النجاح القوي، جعلها - أي المنصّات العالمية - لا تقتصر على حصصٍ كبيرة في أسواق أعمالها الأساسية فقط، بل تعمل على إعادة هيكلة الأسواق العالمية واحتلال أخرى، وتوسيع حدودها وفقًا لقواعدها ومصالحها الخاصة.
إمكانيّة نجاح منصات عربية شريطة تقديم ميزة تنافسية قوية
ومنذ بدء ظهورها، مطلع الألفيّة الثالثة، ظهرت اتجاهات جديدة أثّرت في التطوّرات المتلاحقة التي شملتها هذه المنصّات، خصوصًا ما ارتبط منها بالتطوّرات التّكنولوجية المتلاحقة، وضغط السوق، واحتياجات المستخدِمين المتغيّرة، فنجد مثلًا أنّ بعض المنصّات قد أصبح أكثر شهرة وانتشارًا، وبعضها فقد شعبيته وتهاوى سريعًا، والبعض الآخر لم يَقدِر على المنافسة واختفى تدريجيًّا من العقد الشبكيّة (منصّتا "باز العربية" و"عرب فيس")، وبعض المؤثّرين والصفحات والمواقع اكتسب المزيد من الشهرة والاهتمام، بينما فقد البعض الآخر شعبيّته وحضوره، ويرجع ذلك من الناحية الاقتصادية إلى شدّة المنافسة حدّ الاحتكار والتركيز الرّأسمالي المتوحّش، الذي يجعل كل المحاولات الناشئة إلى جانب المنصّات الكبرى تُقْبَرُ في مهدِها، بالنظر إلى حالة الإشباع الرّقمي الذي تعانيه المجتمعات الحالية، وضعف التمويل ونقص الابتكار وغياب المجتمع الرقمي التشاركي.
وبغضّ النظر عن هذا الزخم البشري/الآلي المتلاحِق، فإنّ شيئًا واحدًا يبقى مؤكَّدًا وهو أنّ البشر يبقون بشرًا، وخُلقوا اجتماعيين بطبعهم، والقواعد الأساسية للتواصل البشري والسلوك الإنساني هي ذاتها منذ أن نبّه إليها رواد السلوكية الأوائل: الإقناع والتحفيز، كما أنّ الأسُس التي وضعها أرسطو عن البلاغة لا تزال قائمة على المنصّات، مع الحاجة إلى بعض التعديلات حسب احتياجات المستخدِمين المُتبدّلة، ومنها العوامل المرتبطة بشخصية المتحدث (الإيثوس)، والأثر الذي يتركه في الجمهور (الباثوس)، والمنطق الذي يستخدمه (اللوغوس)، وفي ظلّ هذه القواعد، تبقى إمكانيّة نجاح منصات أخرى - عربية - ممكنة إلى حدّ بعيد شريطة تقديم ميزة تنافسية قوية، وتجربة استخدام فريدة تستشرف احتياجات الأجيال المستقبلية، والتطوّرات المتلاحقة في مجال الذّكاء الاصطناعي، وتتغلّب على مخاطر وتحديات المراقبة والتطفّل التي تفرضها المنصّات الأخرى.
حينما ندخل إلى منصّات عالمية لم تنبع من بيئتنا الثقافية إنما نلِج كـ"حمامة سكينر" ليُعاد قوْلبة سلوكاتنا وأفكارنا
تُعلّمنا بقيّة الشواهد والتجارب السابقة بخصوص المنصّات العالمية، أننا اليوم وأكثر من أي وقت مضى نفقد تدريجيًّا القدرة على السيطرة على مصيرنا ومستقبلنا ونسلّمه للشركات لتبيع وتشتري في المعلومات والآثار التي نخلِّفها وراءنا، وأننا حينما ندخل إلى منصّات عالمية، لم تنبع من بيئتنا الثقافية والعقدية، وحاجاتنا الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إنما نلِج كـ"حمامة سكينر" - رائد الاتجاه السلوكي في علم النّفس - نحو الصندوق، ليُعاد قوْلبة وتشكيل سلوكاتنا وأفكارنا من النّقر العشوائي، إلى النّقر المنظّم الذي اختارته خوارزميات المنصّات لنا، في انتظار الحصول على مكافآت (المزيد من المحتويات والفيديوات المثيرة)، ونحن إذ نفعل ذلك، ندخل المنصّات وقد تحوّلت ساحة وغى نفسية واقتصادية وسياسية، وفيها من الإدمان الرقمي والإجهاد المعلوماتي والقصف والمعلومات والتضليل المعلوماتي ما يفقدنا القدرة الإنسانية على مواجهة الآلة الجبّارة، فنسلّم تدريجيًّا للخوارزميات إرادتنا وحرّيتنا الإنسانية تحت غطاء التمكين والديموقراطية والانفتاح... وقد عبّر عن ذلك مارك زوكربيرغ، حينما ألقى سنة 2017 خطابًا في جامعة هارفارد صرّح فيه بما يلي: "إنها الحرب الأعظم في زمننا، قوى الحرّية والانفتاح والجماعات العالمية في مواجهة قوى الدّيكتاتورية والانغلاق والوطنيات، إنّها ليست حربًا بين الدول، بل هي حرب أفكار"، ومصالح ونفوذ وسيطرة لا تدخل حسابات المجتمعات المتطلّعة للتنمية والإصلاح والتقدّم ضمن حساباتها.
يمكن صقل فرص نجاح لمنصّات عربية بمواصفات عالمية تستجيب لطموحات الشباب وأولوية القضايا العربية المصيرية
وسواء وَلَجنا إلى المنصّات العالمية على النّمط الغربي مثل إنستغرام وفيسبوك وسنابشات، وشات جي.بي.تي، أو النمط الشرقي مثل تيك توك وديب سيك، فذلك يفترض مسبقًا التسليم بما تفرضه من شروط حضور واستخدام وسطو متزايد على خصوصيّتنا وحياتنا الحميمية، وقابلية للمراقبة وحفظ الملفات وتتبّع الهويات الحقيقية خلف الحواسيب، إضافة إلى التسليم بآليات الاستبداد الآلي والتحكم الخوارزمي بالمحتويات، فهي تخلق نُظُمًا اجتماعية وتقنية خاصة بها، وتعمل كحرّاس بوابة، مع احتفاظها بسلطة تحديد القواعد والسيطرة، عبْر تفاعل معقّد بين المستخدِمين، والتقنيات، والبُنى التحتية، والهياكل التنظيمية، والممارسات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المختلفة للدولة المالكة لها.
وفي تفكيك كلّ هذه المساوئ والثغرات والتحيّزات الماضية نحو تغليب اللاتوازن واللاعدالة بين المجتمعات والحضارات، يمكن صقل فرص نجاح جديدة، لمنصّات عربية بمواصفات عالمية، تستجيب لطموحات الشباب، وانتظارات الأجيال، وأولوية القضايا العربية المصيرية: التكتّل والتنمية والتعليم والاقتصاد، فتعيد حماية وتسييج ما سبق السّطو عليه من طرف المنصّات العالمية، وربط وتوثيق عرى ما فسخته ثقافتها الأجنبية من روابط وصلات وعلاقات اجتماعية محلّية، ومدّ ما قطعه الاستعمار من انفتاح وتبادلات تجارية واقتصادية إقليمية وجهوية.
(خاص "عروبة 22")