كان يمكن إقامة مثـل هـذا الارتبـاط التّـلازُميّ بين الوحـدويِّ والقومـيِّ في مرحلـةٍ سابـقةٍ من تاريخنا السّياسيّ الحديث اقـترنت فيها فكـرةُ الوحدة بالفكـر القومـيّ العربيّ، ابتداءً، ثـمّ بالحركات السّياسيّـة القوميّـة التي تكـوّنت - على قاعـدة موضوعاته - تاليـًا.
والاقـترانُ ذاك، في حقيقة أمـره، اقـترانٌ تاريخيّ طبيعيّ بالنّـظـر إلى ابتدار التّـيارات القوميّـة العربيّـة إلى التّـنبيه على مخاطر التّجزئـة على الوجود العربيّ منذ وقـتٍ مبـكّـرٍ من التّاريـخ الحديث، لكنّـه ما كان اقـترانًا حصريًّا؛ لأنّ الفكـرة الوحدويّـة العربيّـة فاضت عـن حدود تـيّـارها الحاضـن لتصير - في مطافها الأخير- فكـرةً عامّـة وعابـرة لحدود الإيديولوجيّـات السّياسيّـة.
لا بـدَّ لفعْلِ الإنشاء والتّـأسيس من قــوّةٍ تنهض به
يُـشْـبه التّلازُمُ بين فكـرة الوحـدة والخطاب القومـيّ العربيّ التّـلازُمَ الذي كان بين أفكار الحـريّـة والدّستـور والدّيمقراطيّـة و(بين) الخطاب اللّيبراليّ العـربيّ؛ وهو عيـنُه التّـلازُم الذي كان بين فكـرة العـدالة الاجتـماعيّـة (= الاشتراكيّـة) والخطاب الماركـسيّ العربيّ، بل الذي كان - قبـل هـذا وذاك وذلك - بين الفكرة الوطنـيّـة الاستقلاليّـة وخطاب الحركات الوطنيّـة العربيّـة في مواجهـة الاحتلال الاستعماريّ والنّضال من أجـل نـيل الاستقلال الوطنـيّ. هـذه السّـوابـق من الارتباط التّـلازُمـيّ بين الأفكار/ الأهـداف الكبرى، المـومأ إليها ـ وحواضـنها الأولى من التّـيارات الإيديولوجيّـة والسّياسيّـة هـي من باب الاقـتـران التّاريخيّ الذي تحْـمِـل عليه تجربـةُ البدايـات؛ حيث لا بـدَّ لـفعْـلِ الإنشاء والتّـأسيس من قــوّةٍ تنهض به. وممّا يدُلُّـنـا على أنّـه كـان - في الأحـوال المشار إليها - اقتـرانًا تاريـخيًّا فحسب وليس اقتـرانًا مـاهـويًّا حصريًّا، أنّ الأفكار تلك فاضت جميعَـها عن تياراتـها الأصـل - التي نشأت في بيئاتـها ابتـداءً - صارت عامّـة يتداولها الجمـيع ويدافـع عنها الجميع، حتّـى وإن كانت مراتبها - في رؤاهُـم وفي أولويّـاتهم البرنامجيّـة - متفاوتـةً بتفاوت قيمتها داخـل مشروع كـلّ فـريقٍ منهم.
الوحدة مسألة وجوديّة ومصيريّة تبرِّرُها الحاجاتُ التّاريخيّة الموضوعيّة والمصالحُ المشتركـة
قلنا إنّـه ما من شيءٍ يدعـو إلى المُماهاة بين الفكرة الوحدويّـة والإيديولوجيا السّياسيّة القوميّـة، بعد أن فاضـتِ الأولى عن حدود الثّانيّـة وبات للقوميّـين العرب - بعناوينهم السّياسيّة المختلفة - شركـاءٌ آخـرون يقتسمـون معهم الاهتجـاسَ بالفكرة عينِـها. ولعلّ هذه الشّـراكة بين التّيارات في الفكـرة الواحـدة (= فكـرة الوحـدة في حالتـنا) حـالٌ طبيـعيّـةٌ تمامًا لا شـذوذ يعتريـها. وبيانُ ذلك أنّ فكـرة الوحدة فـكـرةٌ جامعـة؛ قد تجتمع عليها كَـثْـرةٌ كاثـرةٌ من النّاس من منابـتَ فكـريّـةٍ وولاءاتٍ سياسيّـة متعـدّدةٍ ومتبايـنـة لا مِـن ذوي المَـشْرب الواحـد والولاء الواحـد. أمّا لماذا هـي فكـرةٌ جامعة فَـلِأنّ مَـبْنـاها على مصلحـةٍ عامّـة مشتَـركـة وجامعة ليست مَـوْطِـنَ جـدالٍ أو خلاف، شأنها في هذا شأن أيّ فكـرة أخـرى كبرى، مثـل الحريّـة أو الاستقـلال أو النّـهضـة، أو سواها مِـن تلك التي لا يُـتَنَـازَع عليها.
من مصلحة كـلّ وحدويّ، إذن، أن ينظر إلى هـدف الوحـدة العربيّـة في نطاق هـذا الأفْـق الأرْحـب العابـر للتّـيّارات والإيديولوجيّـات؛ إذِ الوحـدةُ ليست مسألـةً إيديولوجيّـة، بل وجوديّـة ومصيريـّـة تبرِّرُهـا الحاجاتُ التّاريخيّـة الموضوعيّـة والمصالـحُ المشتركـة للعرب في امتـداد جغرافيّـة مَـوَاطِنـهم وانتشارهـم. بل إنّـه لمن مصلحـة القـوميّ العربيّ نفـسِه أن يُـنْـظَـر إلى مسألة الوحـدة بهـذه السّـعة؛ أليس ذلك ممّا يقيـم دليلًا على حُجِّـيّـةِ دعـوته، وعلى صيرورة الوحـدة - التي حَمَـلها ودافع عنها - عـقيـدةً سياسيّـةً للأمّـة جمعاء لا لفريـقٍ واحـدٍ منها؟.
(خاص "عروبة 22")