الوجدان العربي ظلّ خارج خرائط التقسيم، إلى جانب اللغة والدِّين كان الأدب والفنّ من بين العوامل التي صنعت وحافظت على هذا الوِجدان المشترك. على الرَّغم من كلّ التحدّيات لا يزال الوجدان العربي مفعمًا بمشاعر عميقة تكتنفها هوية واحدة تتجاوز الحدود المصطنعة، ما يجعل قضيةً مثل القضية الفلسطينية قادرة على أن تظهر خبيئة هذا الوجدان وتكشف عن حقيقته.
وحدة الوجدان خط الدفاع الأخير عن العروبة عندما تضعف الآليات الرّسمية أو تتأثّر بالضغوط الخارجية
على الرَّغم من أنّ وحدة العرب تتطلّب أبعادًا سياسية واقتصادية واجتماعية، تظلّ وحدة الوجدان هي العنصر الأساسي الذي يحافظ على الهوية العربية، وتعتبر ـ في الكثير من الأحيان ـ خط الدفاع الأخير عن العروبة خصوصًا عندما تضعف الآليات الرّسمية أو تتأثّر بالضغوط الخارجية.
الوجدان القومي يتخلّق من مجموع العناصر المشتركة التي تنتج إحساسًا بالهوية وشعورًا بالانتماء بين أفراد الأمّة، تتداخل هذه العناصر بين التاريخ، والثقافة، واللغة، والدّين، والفنون، والمصالح المشتركة، والتجارب الجماعية، حين تتكامل هذه العوامل يتكوّن لدى الأمّة رؤية موحّدة للعالم، وإحساس مشترك بالماضي والمستقبل، وارتباط وجداني عميق بالوحدة القوميّة، التي تتمظهر تعبيراتها في مناحٍ شتّى.
في أوّل لقاء مع المايسترو سليم سحّاب، حين قدم إلى القاهرة نهاية التسعينيّات من القرن الماضي شاكستُه بالسّؤال عن "قوميّة الموسيقى"، قلتُ له: الموسيقى لغة عالميّة يا مايسترو؟
فوجئتُ به يتوجّه إلى "البيانو" في ركن قصي بالصالون الذي استقبلني فيه، وشرع في عزف واحدة من مقطوعات "بيتهوفن"، ثم أشار إليَّ يطلب التركيز، وانتقل إلى عزف جزءٍ من لحن أغنية (أهل الهوى يا ليل) للشيخ زكريا أحمد، ثم نظر إليَّ وهو يسألني: تُلاحظ أنّهما مكتوبان على المقام الموسيقي نفسه، فهل تجد أي شَبَه بينهما؟
بالطبع لن تجد أي تشابه، ذلك لأنّ اللحن الأول جنسيته ألمانية، وانتماؤه ألماني محض، بينما اللحن الثاني انتماؤه عربي، تجمع بينهما فقط حروف الموسيقى السبعة الشهيرة.
إذن هو خطأ شائع، يدخل في باب الخرافات المتداولة أن نردّد أنّ الموسيقى لغة عالمية، هي لغة قوميّة بحروف عالمية، تتألف الموسيقات القومية للشعوب من الحروف الموسيقيّة نفسها (دو. ري. مي. فا. صول. لا. سي)، ولكن تبقى موسيقى كلّ شعب هي لغته القومية المعبّرة عن أصوله وثقافته الخاصة، والأهمّ عن وجدانه.
في الإطار القومي الواحد لن نعدم في كلّ إقليم عربي ذائقته الخاصة ومزاجه المميّز
من ناحيتي، أوقن أنّ الموسيقى تمتلك القدرة على أن تكون لغةً عالميةً ما يجعلها وسيلة فريدة للتواصل والتعبير، ولكنّها تظلّ لغات قومية، لا يمكن أن ننزع من الموسيقى تعبيرها عن هويتها الخاصة، وإن كُتبت بالحروف نفسها التي تُكتب بها لغات متعددة.
حتّى في الإطار القومي الواحد لن نعدم في كلّ إقليم عربي ذائقته الخاصة، ومزاجه المميّز الذي تظهر ملامحه ولمساته في الفولكلور الشعبي الذي يعبّر عن مجموعة الفنون القديمة والقصص والحكايات والأساطير، وتلك الفنون المنحصِرة ضمن عادات وتقاليد مجموعة سكانيّة معيّنة في هذا الإقليم العربي أو ذاك.
الموسيقى والغناء لعبا دائمًا قديمًا وحديثًا دورًا جوهريًّا في الحفاظ على الهوية العربية وتعزيز الوجدان القومي، بخاصة في الفترات التي واجهت فيها الأمّة تحدّيات كبرى.
حكى لي المايسترو سليم سحاب، أنّه ومعه كل أعضاء الفرق الموسيقية التي قادها، لاحظوا عند تقديمهم بعض الموشّحات والأغنيات العربية، أنّ بعض ما يقدّمونه "يثير انفجارًا انفعاليًا لدى الجمهور في مختلف البلدان العربية من الخليج إلى المحيط، وفي المقاطع الموسيقية الغنائية نفسِها يُترجَم ذلك بتصفيق مفاجئ في وسط الأغنية، هذا الانفجار وجدته في الجمهور العربي نفسه الذي حضر حفلاتنا في واشنطن الأميركية".
لا يُنكر أحد أنّ حفلات كوكب الشرق "أم كلثوم" الشهرية كانت حدثًا ينتظره الملايين، وكانت أغانيها ـ ولا تزال ـ تجمع العرب من مختلف أقطارهم، ولا يُماري أحد في أنّ عصفورة الشرق "فيروز" تتمتّع بتأثير كبير في العالم العربي، وكانت أغانيها ـ وما زالت ـ جزءًا من حياة الملايين اليومية.
الموسيقى العربية عميقة في تعبيرها عن صياغة الوجدان
مهرجانات الموسيقى العربية، مثل "مهرجان قرطاج" في تونس و"مهرجان موازين" في المغرب، لا تزال قادرة على أن تخلق فضاءً ثقافيًّا مشتركًا يُعزّز التبادل الثقافي والفنّي بين الشعوب، ويضيف ينابيع متجدّدة في نهر الوِجدان العربي.
الإسلام كان عنصرًا مُوحِّدًا في الوجدان العربي، ليس فقط دينيًّا، بل كحامل للقيم الاجتماعية والتاريخية، وطبع بصمته الخالدة على التراث الموسيقي العربي كهوية حضارية، حتّى قيل "إن موسيقى الطرب العربي خرجَت من المسجد"، وهو قولٌ يؤكّد هذا الترابط بين الموسيقى والدِّين، وهما معًا من أهمّ مقوّمات صناعة الوجدان المشترك.
الغناء العربي ابن مدرسة التجويد القرآني، استَمدَّ منها العديد من الأسُس الصوتية والفنية التي أصبحت لاحقًا جزءًا لا يتجزأ من الهوية الموسيقية العربية.
أشهر المطربين العرب قديمًا وحديثًا استلْهموا الكثير من مهاراتهم الصوتية من مدرسة التجويد القرآني، على رأسهم "أم كلثوم"، وقد نُفاجأ حين نعرف أنّ الفنان علي الحجار، قارئ معتمد من "الأزهر"، ويعدُّ المطرب الوحيد الذي يحمل إجازة.
هذا الارتباط الوثيق والتأثير الواضح لمدرسة التجويد القرآني جعل الموسيقى العربية فريدةً من نوعها وعميقةً في تعبيرها عن المشاعر وصياغة الوجدان، وظهرت تأثيرات تلك المدرسة في الأساليب اللحنيّة عند الكثير من كبار المُلحنين، منهم زكريا أحمد وداوود حسني ورياض السنباطي وسيد مكاوي، وقبلهم وبعدهم كثيرون آخرون.
الوجدان العربي كرابط عابر للحدود يُشكِّل رصيدًا هائلًا يمكن استثماره لتوحيد الصف العربي في ظلّ تحديات العصر
هي ظاهرة لها شواهد في أكثر من بلد عربي، في العراق ـ مثلًا ـ تأثّر محمد القُبَّنْجِي وناظم الغزالي وغيرهما كثيرون، بأداء المُقرِئين والمنشدين، وكانوا تلاميذ للمطربين الذين تربّوا في مدرسة التلاوة.
على الرَّغم من تباين الأنظمة السياسية والظروف الاقتصادية والاجتماعية، يبقى أنّ الوجدان العربي كرابط عابر للحدود يُشكِّل رصيدًا ثقافيًّا وروحيًّا هائلًا يمكن استثماره ليكون أساسًا لمشروع نهضوي حقيقي لتكريس الهوية العربية ولتوحيد الصف العربي في ظلّ تحديات العصر الحديث.
هذه الوحدة الشعوريّة لا تُعبّر عن تاريخنا وتراثنا فقط، لكنها تُوحّد تطلعاتنا المشتركة، وتُذكّرنا بأننا على الرَّغم من اختلاف مواقعنا ومواقفنا، إلّا أنّ وجداننا العربي يظل رابطًا لا ينفصم.
(خاص "عروبة 22")