يَبْدو أَنَّ اسْتِمْرارَ مِصْرَ الرَّسْمِيَّةِ في اتِّباعِ تَقالِيدِ "مَدْرَسَةِ السّاداتِ السِّياسِيَّةِ" في إِطاعَةِ تَصَوُّرِ الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ لِتَنْفيذِ خُطَّةِ تَرامْبْ لِغَزَّةَ قَدْ يَكونُ صَعْبًا، بَلْ وَمُدَمِّرًا... لِماذا؟.
أَوَّلًا: لأَنَّ التَّهْديدَ هَذِهِ المَرَّةَ تَهْديدٌ وُجودِيٌّ يَتَعَلَّقُ بِمِصْرَ نَفْسِها وَرُبَّما بِعَواقِبَ وَعِقابِ التّاريخِ لاسْتِخْدامِها المُفْرِطِ لِفِكْرَةِ مِصْرَ الحَذِرَةِ التي لَيْسَ لَها عَلاقَةٌ إِلّا بِالدِّفاعِ عَنْ حُدودِها، فَكانَتِ النَّتيجَةُ أَنَّهُ رُبَّما لِأوَّلِ مَرَّةٍ في التّاريخِ المَعْروفِ، تُحاصِرُها التَّهْديداتُ مِنْ جَميعِ الاتِّجاهاتِ الاسْتْراتيجِيَّةِ مِنَ الجَنوبِ "سَدِّ النَّهْضَةِ وَحَرْبِ السّودانِ الأَهْلِيَّةِ"، وَمِنَ الغَرْبِ الاحْتِرابُ بَيْنَ شَرْقِ وَغَرْبِ ليبْيا، بِالإِضافَةِ لِلْخَطَرِ التّاريخيِّ الدّائِمِ -مُنْذُ تْحُتْمُس الثّالِثِ- مِنِ اتِّجاهِ الشَّرْقِ والشَّمالِ الشَّرْقيِّ المُتَمَثِّلِ حالِيًّا في تَفاعُلاتِ حَرْبِ غَزَّةَ وَتَسْوِيَةِ تْرامْب لَها، وَهي التَّسْوِيَةُ التي تُمَثِّلُ أَخْطَرَ مَشْروعٍ جيوسِيَاسيٍّ على مَصالِحِ الأَمْنِ القَوْميِّ المِصْريّ... بِالقَدْرِ نَفْسِهِ الذي تُمَثِّلُ بِهِ حُكْمًا بِالإِعْدامِ على الحُقوقِ الفِلَسْطينِيَّة.
"خطة ترامب" لن ترى النور إذا غابت عنها مصر
ثانِيًا: إِنَّ اتِّجاهَ مِصْرَ لِمُقاوَمَةِ الضُّغوطِ الأَميرْكيَّةِ هَذِهِ المَرَّةَ لَهُ مَنْطِقٌ "ذاتِيٌّ مَشْروعٌ جِدًّا" يَسْهُلُ الدِّفاعُ عَنْهُ خاصَّةً لَدى الدَّوْلَةِ العَميقَةِ الأَميرْكيَّةِ أَكْثَرَ مِنَ التُّجّارِ حَوْلَ تْرامْب، إِذْ يَتَعَلَّقُ بِدَفْعِ خَطَرٍ يُهَدِّدُ اسْتِقْرارَ حَليفٍ كَبيرٍ في الشَّرْقِ الأَوْسَطِ يَصْعُبُ على البِنْتاغون الاسْتِغْناءُ عَنْه. فَهُوَ خَطَرٌ لَنْ يَهُزَّ فَقَطْ اسْتِقْرارَ مِصْرَ النِّسْبِيَّ في مِنْطَقَةٍ مُضْطَرِبَةٍ، بَلْ سَيَهُزُّ الهَنْدَسَةَ الأَميرْكيَّةَ لِلْمِنْطَقَةِ مُنْذُ كيسِنْجِر. وعلى المُسْتَوى المِصْريِّ الداخِليِّ قَدْ يَهُزُّ الصَّرامَةَ التي مارَسَ بِها النِّظامُ السِّياسِيُّ مُنْذُ 2014 عَمَلِيَّةَ تَوْحيدِ مُؤَسَّساتِ القُوَّةِ في الدَّوْلَةِ المِصْرِيَّةِ لإٍنْهاءِ مَراكِزِ القُوَى المُتَنافِسَةِ التي عَرَفَها عَصْرُ مُبارَك.
ثالِثًا: وَرُبَّما هَذا هُوَ الأَهَمُّ أَنَّ مِصْرَ تَمْتَلِكُ في تَطْبيقِ القَرارِ 2038 المَبْنيِّ على خُطَّةِ تْرامْب، أَوْراقًا تَجْعَلُها الطَّرَفَ الأَهَمَّ في التَّنْفيذِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ القَوْلُ إِنَّ هَذِهِ الخُطَّةَ سَواءٌ ما يَتَعَلَّقُ بِتَكْوينِ قُوَّةِ الاسْتِقْرارِ الدَّوْلِيَّةِ أَوْ طَبيعَةِ السُّلْطَةِ الحاكِمَةِ لِغَزَّةَ أَوْ إِعادَةِ الإِعْمارِ، لَنْ تَرى النّورَ إِذا غَابَتْ عَنْها مِصْر. بَلْ يَكْفي أَنْ تُهَدِّدَ مِصْرُ بِعَدَمِ الانْخِراطِ فيها في حَالَةِ عَدَمِ اسْتِجابَةِ تْرامْب لِلْمَطالِبِ الرَّئيسِيَّةِ التي تَوافَقَتْ عَلَيْها مِصْرُ مَعَ الضّامِنَيْنِ الآخَرَيْنِ وَهُما قَطَرُ وَتُرْكِيَا وَمَعَ الفَصائِلِ الفِلَسْطينِيَّة. الاتِّجاهُ العامُّ لِمَطالِبِ مِصْرَ والشُّرَكاءِ تُجاهَ قُوَّةِ الاسْتِقْرارِ هُوَ أَنْ تَكونَ قُوَّةً لِمُراقَبَةِ الحُدودِ بَيْنَ غَزَّةَ وإسْرائيلَ وَلَيْسَتْ قُوَّةً لِنَزْعِ سِلاحِ "حَماس". تَسْتَطيعُ مِصْرُ فَرْضَ مَوْقِفِها هَذا؛ أَوَّلًا لأَنَّ أَغْلَبِيَّةَ الأَطْرافِ أَعْلَنَتْ أَنَّها لَنْ تُشارِكَ في قُوَّةٍ يَشْتَبِكُ أَفْرادُها مَعَ مُقَاتِلي المُقاوَمَةِ في غَزَّةَ فَيَقْتُلونَ أَوْ يُقْتَلون. والدُّوَلُ العَرَبِيَّةُ والإِسْلامِيَّةُ لَنْ تَنْضَمَّ إلى قُوَّةٍ لِنَزْعِ سِلاحٍ يَقْتُلُ فيها العَرَبِيُّ والمُسْلِمُ شَقيقَهُ في غَزَّة.
يمكن لمصر التي تملك المفاتيح الميدانية أن تؤكّد أنّ الحكومة "التّكنوقراطيّة" يجب أن تحكم غزّة وليس "مجلس السلام"
الأَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الأَطْرافَ كُلَّها قَدْ لا تُشارِكُ إِذا رَفَضَتْ مِصْرُ إِرْسالَ جُنودِها لأَنَّهُ كَما هُوَ واضِحٌ مِنَ القَرارِ، فَإِنَّ القِوامَ الأَساسِيَّ لِهَذِهِ القُوَّةِ سَيَكونُ مِصْرِيًّا. فَإِذا رَبَطَتْ مِصْرُ بِحَزْمٍ مُشارَكَتَها الغالِبَةَ في القُوَّةِ بِقبولِ الأَميرْكيِّينَ التَّصَوُّرَ المِصْرِيَّ / الفِلَسْطينِيَّ، لَنْ تَسْتَطيعَ واشِنْطُن تَجَاوُزَ مِصْرَ، إِذْ سَيَكونُ ذَلِكَ مَعْناهُ انْهيارَ الاتِّفاق. وَلا تَمْلِكُ واشِنْطُن فَرْضَ ذَلِكَ على مِصْرَ لأَنَّها لَيْسَتْ على اسْتِعْدادٍ لِلتَّوَرُّطِ في الشَّرْقِ الأَوْسَطِ بِجُنودِها خاصَّةً في حُروبٍ حَضَرِيَّةٍ في مَدينَةٍ شَديدَةِ البأسِ كَغَزَّة. في حالِ تَوَفُّرِ الإِرادَةِ السِّيَاسِيَّةِ فَإِنَّ الحَزْمَ المِصْرِيَّ يُمْكِنُ أَنْ يَشْمَلَ التَّحْذيرَ مِنْ أَنَّ حَرْبًا مَعَ المُقاوَمَةِ سَتَقودُ قَطْعًا لِلْفَوْضى وَرُبَّما لِـ"صَوْمَلَةِ" غَزَّةَ مَعَ اخْتِفاءِ أَيِّ طَرَفٍ فِلَسْطينِيٍّ يُمْكِنُ أَنْ يَضْبُطَ الحُدودَ مَعَ مِصْر. وَيَعْقُبُها تَدَفُّقُ السِّلاحِ إلى سيناءَ أَيْ سَيَنْشَأُ تَهْديدٌ كارِثِيٌّ على حُدودِها. سَيَرْفَعُ الإِرْهابُ رأسَهُ في سيناءَ مَرَّةً أُخْرى وَهُوَ خَطَرٌ وُجودِيٌّ مِنَ الواضِحِ أَنَّ المُؤَسَّسَةَ العَسْكَرِيَّةَ المِصْرِيَّةَ لَنْ تَقْبَلَ بِالتَّعايُشِ مَعَه.
في مَسْأَلَةِ مَنْ يَحْكُمُ غَزَّةَ، يُمْكِنُ لِمِصْرَ التي تَمْلِكُ المَفاتِيحَ المَيْدانِيَّةَ والخِبْرَةَ في شؤونِ غزّة، أَنْ تُؤَكِّدَ أَنَّ تَصَوُّرَها عَنْ أَنَّ الحُكومَةَ "التِّكْنوقْراطِيَّةَ" الفِلَسْطينِيَّةَ هي مَنْ يَجِبُ أَنْ تَحْكُمَ غَزَّةَ سِياسِيًّا، وَلَيْسَ "مَجْلِسَ السَّلامِ" هُوَ التَّصَوُّرُ العَمَلِيُّ الوَحيد. لأَنَّ "مَجْلِسَ السَّلام"، كَحُكْمِ وِصايَةٍ أَجْنَبيٍّ وَحُكْمِ انْتِدابٍ دَوْليٍّ يَجْعَلُ غَزَّةَ مَحْمِيَّةً اسْتِعْمارِيَّةً، خَلَقَ مِنَ البِدايَةِ شُعورًا بِالإِهانَةِ الوَطَنِيَّةِ لِلْفِلَسْطينيِّينَ، وَتَسودُ الآنَ سَرْدِيَّةٌ واقِعِيَّةٌ تَقولُ: "لَقَدْ حَوَّلْتُمونا مِنْ شَعْبٍ مُقاوِمٍ في طَريقِهِ لِلاسْتِقْلالِ إلى شَعْبٍ تَحْتَ الاسْتِعْمار". هَذِهِ السَّرْدِيَّةُ سَتَتَحَوَّلُ إلى غَضَبٍ هائِلٍ عِنْدَما يَبْدأ الاحْتِكاكُ بَيْنَ الوِصايَةِ الأَجْنَبِيَّةِ والمُواطِنين. المُقاوَمَةُ سَتَزْدادُ بَيْنَ الفِلَسْطينيِّينَ لِرَدِّ الكَرامَةِ وَلَنْ تَكونَ في الغالِبِ مُنَظَّمَةً، واحْتِمالاتُ التَّطَرُّفِ وارِدَةٌ وَقَدْ لا تَقْتَصِرُ على الأَميرْكيِّينَ والإِسْرائيليِّينَ، بَلْ قَدْ تَمْتَدُّ إلى العَرَبِ الذينَ قَبِلوا بِحُكْمٍ اسْتِعْماريٍّ لِغَزَّة. لا تَسْتَطيعُ مِصْرُ أَنْ تَتَحَمَّلَ وَضْعًا فَوْضَوِيًّا غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَّنَبُّؤِ الدَّقيقِ بِمآلاتِهِ على حُدودِها مِثْلَ هَذا.
قد تكون مصر مُجبرة هذه المرّة على مقاومة الطاعة لمشروعٍ يُهدّد أساس كيانها وشرعيّة نظامها
يَنْطَبِقُ الأَمْرُ على خُطَّةِ إِعادَةِ الإِعْمارِ المُريبَةِ التي يَقودُها "آرْييه لايْتْسْتون" (Aryeh Lightstone) رجُلُ تْرامْب لِبِناءِ مُجَمَّعاتٍ مُؤَقَّتَةٍ لِلْفِلَسْطينيِّينَ في النِّصْفِ الشَّرْقيِّ لِغَزَّةَ قَليلِ السُّكانِ الذي تُسَيْطِرُ عَلَيْهِ إِسْرائِيلُ وَتَرْكِ النِّصْفِ الغَرْبيِّ الذي تُسَيْطِرُ عَلَيْهِ حَماس مِنْ دونِ إِعْمارٍ والذي يَضُمُّ أَغْلَبِيَّةَ الفِلَسْطينيِّينَ، يُهَدِّدُ بِقَسْوَةٍ بِعَوْدَةِ خَطَرِ التَّهْجيرِ إلى سيناءَ المِصْرِيَّة، خصوصًا أَنَّ تَخْطيطَ "آرْييه لايْتْسْتونْ" لِشِراءِ الأَراضِي التي سَتُقامُ عَلَيْها المُجَمَّعاتُ المُؤَقَّتَةُ مِنْ مُلّاكِها الفِلَسْطينيِّينَ لَنْ يَنْجَحَ، وَبِالتّالِي لَنْ يَنْزَحَ الفِلَسْطينِيّونَ في النِّصْفِ الغَرْبيِّ إلى المِنْطَقَةِ الإِسْرائيلِيَّةِ وَيَتَقَاتَلونَ مَعَ إِخْوَتِهِمْ مُلَّاك الأَراضِي المَذْكورَة. وَمَعَ عَدَمِ الإِعْمارِ وَعَدَمِ تَحَسُّنِ الأَحْوالِ المَعيشِيَّةِ سَيُطِلُّ خَطَرُ التَّهْجيرِ بِرأسِه. التَّهْجيرُ بِالنِّسْبَةِ لِمِصْرَ خَطٌّ أَحْمَرُ وَهُوَ في إِدْراكِها الأَمْنيِّ كَما يُقالُ "كارِثَةٌ جِيوسِياسِيَّةٌ كُبْرى".
إِذا كانَتْ مِصْرُ مُنْذُ عَهْدِ السّاداتِ لا تَتَحَدّى الوِلاياتِ المُتَّحِدَةَ عِنْدَما كانَ الأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْوِساطَةِ مَعَ الفِلَسْطينيِّينَ أَوْ حَرْبَيْ الخَليج... إِلَخْ، فَإِنَّها هَذِهِ المَرَّةَ قَدْ تَكونُ مُجْبَرَةً على مُقاوَمَةِ الطّاعَةِ لِمَشْروعٍ يُهَدِّدُ أَساسَ كِيانِها كَدَوْلَةٍ وَيُهَدِّدُ شَرْعِيَّةَ نِظامِها السِّياسِيّ.
(خاص "عروبة 22")

