بصمات

في ثقافَةِ التَّسَلُّط!

إِذا كـانَ التَّـسَلُّـطُ فِـعْـلًا مـن أَفْـعـالِ العُـدْوانِ التي يَـأْتيـهـا طَـرَفٌ على طَـرَفٍ آخَـرَ، أو أَطْـرافٍ آخَـريـنَ، وَمَظْـهَـرًا مـن مَظـاهِـرِ عَـدَمِ التَّـكافُــؤِ في الاعْـتِبارِ داخِـلَ مَجـالِ العَـلاقـاتِ الإِنْـسانِـيَّـةِ؛ وإذا كـان يُعَـبِّـرُ عـن امْتِـيـازٍ مّـا يَـمْـنَـحُهُ المَـرْءُ لِـنَـفْسـِهِ أو تَـمْنَـحُـهُ الطّـبيـعَـةُ، أو يَـمْنَـحُـهُ الدّيـنُ والأَخْـلاقُ العـامَّـةُ والأَعْـرافُ وَسـائِـرُ التَّـقْـليـدِ والمَـأْلـوفاتِ لإنْـسانٍ على آخَـرَ، بِـما في ذلكَ التَّـحَـكُّـمُ فيه وتَـقْـريـرُ مَـصيـرِهِ...، فَـإِنَّ التَّـسَلُّـطَ بِـهَذا المَعْنـى فِـعْـلٌ قَـهْـريٌّ حُـكْـمًا، والأَفْعـالُ القَـهْـريَّـةُ مُسْتَـشْـنَـعَـةٌ، بالضَّـرورَةِ، لِـقِيـامِها على إِكْـراهِ النّـاسِ على مـا لَيْـسَ يَـرْغَبـونَ فيـهِ، و، بِالتّـالي، غَيْـرُ مَشـْروعَةٍ لأنَّ النّـاسَ، على البَـداءَةِ، أحْـرارٌ وعلى أَنْـفُسِـهِـمْ أسْـيادٌ مُتَـصَـرِّفـون. وَهَـذا ما يَـحْـمِلُـنـا على إِجْـراءِ تَـمْـيـيـزٍ سـَريـعٍ بين القَـهْـريِّ وغَـيْـرِ القَـهْـريِّ في الأَفْـعـالِ الإِنْسـانِـيَّـةِ التي تَكـونُ مـن هَـذا الضَّـرْبِ لِبـَيانِ الفـارِقِ والبِـنـاءِ عَلَيْـه.

في ثقافَةِ التَّسَلُّط!

قُـلْـنـا إنَّ فـِعْـلَ التَّـسَلُّـطِ فـِعْـلٌ قَـهْـريّ. هـَذا يـَصِـحُّ إِنْ أَخَـذْنـا التَّسَـلُّـطَ بِمَـعْـنى تِلْكَ الحـالَةِ مـن السُّـلْطَـةِ الغَـشـومِ المُـطْلَـقَـةِ أو غَـيْـرِ المُـقَـيَّـدَةِ بِـقَـيْـدٍ مـن قـانـون. إِنَّـهُ السُّلْطَـةُ وقـد فـاضَتْ عـن حَـدِّ التَّـكْلـيفِ فَمـالَتْ إلى الإيـذاءِ وإلى الغُـلُـوِّ في التَّحَـكُّم. لَيْسَ الطُّـغْيـانُ والدّيكْـتاتـورِيَّـةُ والقَـمْـعُ الأَعْشـى إلّا نُسـَخـًا مـن هَـذا النَّـمـوذَجِ الـرَّثِّ مـن السُّلْطَـةِ الذي نُسَـمّـيـهِ التَّـسَلُّـط. إِنَّ قَـهْـرِيَّـتَـهُ زائِـدَةٌ عـن حُـدودِ القَـدْرِ الضَّـروريِّ مـن العُـنْـفِ المَشْـروعِ الذي تَـقْـتَـضـيهِ كُـلُّ سُلْطَـةٍ؛ لـذلك هـو فِـعْـلٌ غَـيْـرُ مَشْـروعٍ يَـرْمـي إلى سِياسَـةِ النَّـاسِ مـن غَـيْـرِ رِضـاهُـمْ مـع المُـغـالاةِ في إنِفـاذِ السُّلْطَـةِ فيـهم وفي امْـتِـهـانِ كَـرامَتِهِم.

التسلُّط نظام اجتماعي-سياسي مُتعدّد التجليات والواجهات

وَلَكِـنْ، إذا كـانَـتِ السُّـلْطَـةُ التي لِأَحَـدٍ على الثّـاني غَـيْـرَ مَشْـروعَةٍ إنْ لِـمْ يَـرْتَـضِها الطَّـرَفُ الـذي تَـقَـعُ عليـه ويَـقْـبَلْ بِـها - مِثْـلَمـا هُـوَ أَمْـرُها في حـالِ التَّـسَلُّـطِ هَـذِهِ - فَـإِنَّـها مـا تَـلْبَـثُ أنْ تَـصـيـرَ مَشـْروعَـةً حـينَ يُـفَـوِّضُ النّـاسُ بَعْـضَ السُّلْطَـةِ التي لَـدَيـْهِـمْ على أَنْـفُـسِهِـمْ إلى جِسْـمٍ اجْتِـماعِـيٍّ أو سِياسيٍّ يُمـارِسُها بِـاسْـمِـهِم. السُّلْطَـةُ القـائِـمَـةُ على تَـفْـويضٍ إِراديٍّ، حُـرٍّ وطَـوْعـيٍّ، سُلْطَـةٌ مَشْـروعَةٌ بِالضَّرورَةِ وقَـهْـرِيَّـتُـها جُـزْءٌ مـن آلِيّاتِـها وَلَيْسَتْ فائِضَةً عـن حَـدِّهـا، ولَـكِـنَّـها قـد تَـنْـقَـلِبُ إلى تَـسَـلُّـطٍ قَـهْـريٍّ غـاشِـمٍ وشَـديـدِ الأَذى مـا إِنْ تـَحيـدَ عـن مَضْمـونِـها المُـقَـيَّـدِ بالقـانـونِ والإِرادَةِ العـامَّـة. على أَنَّ قَـدْرًا مّـا مـن القَـهْـرِيَّـةِ والتَّـسَلُّـطَ يَـظَـلُّ مَـوْجودًا فـي كُـلِّ سُلْطَـةٍ: مَشـْروعَـةً كـانَتْ أو غَـيْـرَ مَشـْروعَـةٍ، ومـن دونـِهِ لا سَـبـيـلَ لَـدَيْـهـا إلى الاشْتِـغـال. وقـد لا يُـفْـصِـحُ ذلك التَّـسَلُّطُ "المُـخْـمَـليُّ" عـن نَـفْـسِهِ في أَفْـعـالٍ مَـادّيَّـةٍ عَـنـيـفَـةٍ، بَـلْ قـد يَـتَـمَـظْـهَـرُ في شَكْـلِ تَـسَلُّـطٍ مَـعْـنَـويٍّ تُجَـسِّـدُهُ الهَـيْـبَـةُ: الشَّـرْطُ اللّازِبُ للسُّـلْطَـة.

لَيْـسَ التَّـسَلُّـطُ فِـعْـلًا سِـياسيًّـا، بِالحَـصْـرِ، مُتَـرَكِّـزًا في حَـيِّـزٍ بـِعَـيْـنِـهِ هـو سُلْطَـةُ الـدَّوْلَـةِ على نَـحْوِ مـا هُـوَ عَـلَيْـهِ الظَّـنُّ الأَغْـلَـبُ، وإِنَّـما هـو مُـوَزَّعٌ على أَنْحـاءِ الجِسـْمِ المُجْتَمَـعيِّ كـافَّـةً، مُـتَـفـاوِتُ الفـاعِلـيَّـةِ والأَثَـرِ فـيهـا، بَـلْ دالٌّ على أَنَّ التَّـسَلُّـطَ لَيْسَ مُجَـرَّدَ حـالةٍ تَطْـرَأُ على السِّـياسَـةِ فَـتُـفْـسِـدُها وتُـزْرِي بـِمَـعْـنـاهـا بِـمِـقْـدارِ مـا هُـوَ نِظـامٌ اجْتِـمـاعـيٌّ - سِـياسـيٌّ مُتَـعـَدِّدُ التَّـجَـلِّـيـاتِ والواجـِهـات. إِنَّـهُ النِّـظـامُ الذي نَـصْـطَـدِمُ بِـهِ داخِـلَ الأُسْـرَةِ، وداخِـلَ المَـدْرَسَـةِ والجَمْـعِيَّـةِ والحِـزْبِ والنَّـقـابَـةِ، وداخِـلَ المَصْـنَـعِ ومُنْـشَـآتِ الإِنْـتـاجِ، وفي العَـلاقَـةِ بين الجِـنْسَـيْـنِ نَظيـرَ اصْـطِـدامِـنـا بِـهِ في الدَّوْلَـةِ والمَجـالِ السِّـياسـيِّ العـامِّ، بَـلْ نحـن لا نَـتَـرَدَّدُ في الذَّهـابِ إلى أَبـْعَـدَ مـن التَّسْلـيـمِ بِجُـغْـرافِـيَّـتِـهِ الأَخْطَبـوطِـيَّـةِ هَـذِهِ: إلى القَـوْلِ إِنَّ الاجْتِماعيَّ في هَـذا التَّـسَلُّـطِ (أيْ تَـبَـدِّيـاتُـهُ المُتَـعَـدِّدَةُ في العَـلاقـاتِ والمُـؤَسَّـسـاتِ الاجْتِـماعِـيَّـةِ) يُـمَـثِّـلُ تلك البُـنْـيَـةَ التَّـحْتِـيَّـةَ الارْتِكـازيَّـةَ التي يَـنْـهَـضُ عَلَيْـها صَـرْحُ التَّـسَلُّـطِ السِّـياسـيِّ، في مَـقـامٍ أَوَّلَ، والآلِيّـَةَ التي بـِهـا تَـكـونُ إِعـادَةُ إنْـتاجِ التَّسَـلُّـطِ السِّياسيِّ مُـمْـكِـنَـةَ التَّـحَـقُّـق. ولَـعَـلَّ هـذا يُـرَتِّـبُ نَـتـيـجَـتَـيْـنِ مـن التَّـحْلـيـل:

المقاومة الحق لداء التسلّط هي نقد ثقافته وتفكيكها وتحطيم مرتكزاتها

أولاهُـمـا أنَّ التَّـسَلُُّـطَ إذْ يَـزْحَفَ في نَسيـجِ الجِسْمِ المُجْتَمَعـيِّ بِـرُمَّـتِـهِ ويُـسَـوْطِـنُـهُ، يُـنْـتِـجُ ثَـقـافَـتَـهُ بـالتَّـبِـعَـةِ؛ أعْـنـي يُـوَلِّـدُ مَـنْـظومَـةً مـن القِـيـَمِ والاعْـتِـقـاداتِ سـُرْعـانَ مـا تَـفْـشو وتَـتَـرسَّـخُ في الذِّهْـنِـيَّـةِ العـامَّـةِ لِـتَصـيـرَ ثَـقـافَـةً جَـمْـعِيَّـةً؛ أيّ أنْ تَصيـرَ ثَـقـافَـةً تَـسْـتَـسيـغَ التَّـسَلُّـطَ وتَـأْلَـفُـهُ أو تُـبَـرِّرُهُ وتُـسَـوِّغُ الخُـضـوعَ لـَه! قـد تَـنْـشَأُ ثَـقـافَـةُ التَّسَلُّـطِ هـذهِ مـن داخِـلِ مَصـانِعِـها الخاصَّـةِ (الأَجْهِـزَةُ الثَّـقـافِـيَّـةُ والتَّـعْـليـمِيَّـةُ)، وقـد تُـرَوِّجُ لَـهـا أَجْـهِـزَةُ الاتِّـصـالِ المُخْتَـلِفَـةِ: الرَّسْـمِيَّـةُ مِنْـها والخاصَّـةُ، ولَـكِنَّ الذي لا مِـرْيـَةَ فيـه أَنَّـهـا تَـرِدُ مـن مَـوارِدَ اجْتِـمـاعِيَّـةٍ عِـدَّةٍ لَيـْسـَتِ الأَجْـهِـزَةُ المُشـارُ إِلَيْـها إلّا بَعْـضًـا مِنْـهـا. على أَنَّ هـذه الثَّـقـافَـةُ لا تَـلْـبَـثُ، مـع كُـرورِ الزَّمَـنِ، أنْ تَـصـيرَ راسـِخَـةً رُسـوخًـا يَـقـيـنِـيًّـا بِأَثَـرٍ مـن فِعْـلِ الاسْـتِبْـطـانِ العـامِّ لـَهـا مـن السَّـوادِ الأَعْظَـمِ مـن النّـاسِ، الأَمْـرُ الذي يَنْـجُـمُ مِـنْـهُ أنَّ إعـادَةَ إِنْـتـاجِـها وتَـوْزيـعِـها في المُجْـتَـمَـعِ تُـصْـبِحُ يَسـيرَةً في المُتَـنـاوَلِ العُـمـوميِّ فَـتُـمارَسُ تِـلْـقـاءً مـن دونِ حـاجَـةٍ إلى حـامِـلٍ على ذلكَ مـن خـارِج!

ثـانيـهُـما أنَّ مُقـاوَمَـةَ التَّسَلُّـطِ لَـنْ تَـكـونَ نـاجِـعَـةً إذا هـي تَـوَسَّـلَـتْ في ذَلِكَ وَسـائِـلَ سِياسيّـةً أو حُـقوقِـيَّـةً أو حَـرَكِـيَّـةً، فـقـط، على مـا في هـذهِ الوَسائِـلِ مـن عَظيـمِ الفـائِـدَةِ؛ إذْ هـو لا يُـكَـفُّ أو يُـحَـدُّ أو يُـقَــوَّضُ مـن خِـلالِ تَـجَـلّـيّـاتِـهِ السِّـياسِيّـةِ أو حَـتَّى الاجْـتِـماعِيَّـةِ فَـهَـذِهِ مـن كِـيانِـهِ بِمَـثابَـةِ الأَعْـراض. إِنَّ المُقاوَمَةَ الحَقَّ لِـهَـذا الـدّاءِ العُضَـالِ هـي نَـقْـدُ ثَـقـافَـتِـهِ وتَـفْـكيـكُـها وتَحْطيـمُ مُـرْتَـكَـزاتِـها: فَـهُـوَ بِـهَـذِهِ الثَّـقـافَـةِ يَـرْسَـخُ ويَـفْـشـو ويَـعـيشُ ويَـعْـظُـمُ أَثَـرُه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن