بصمات

نظامُ الدراساتِ العُليا في العلومِ الإنسانيَّةِ والاجتِماعية!إلى أيِّ حَدٍّ يُـمْكِنُ تطويرُهُ في العالمِ العربيّ؟

قَدْ لا يَحْظَى الحَديثُ عَنْ تَطْويرِ نِظامِ الدِّراساتِ العُلْيا في العُلومِ الإِنْسانِيَّةِ وَالاجْتِماعِيَّة بِأَهَمِّيَّةٍ كُبْرى بِالنَّظَرِ إلى هامِشِيَّةِ مَنْزِلَةِ تِلكَ العُلومِ في المنظومَةِ التَّرْبَوِيَّةِ وَالثَّقافِيَّةِ في العالَمِ العَرَبيِّ، إذْ يَكاد الاعْتِقادُ السّائِدُ يَرْبِطُها بـ"السَّفْسَطَةِ" وَاللَّغْوِ أَوْ بِالتَّرَفِ الزائِدِ عَنْ اللُّزوم.

نظامُ الدراساتِ العُليا في العلومِ الإنسانيَّةِ والاجتِماعية!
إلى أيِّ حَدٍّ يُـمْكِنُ تطويرُهُ في العالمِ العربيّ؟

يُهِمُّ نِظامُ الدِّراساتِ العُلْيا في العُلومِ الإِنْسانِيَّةِ وَالاجْتِماعِيَّة مَرْحَلَةَ التَّعَمُّقِ البَحْثيِّ في تَخَصُّصاتِ الدِّراساتِ الأَدَبِيَّةِ وَاللُّغَوِيَّةِ وَالحَضارِيَّةِ وَالتَّاريخِيَّةِ وَالفَلسَفِيَّةِ وَالسّوسْيولوجِيَّةِ وَغَيْرِها بِشَكْلٍ مُتَدَرِّجٍ يَمْتَدُّ على مَرْحَلَتَيْنِ بارِزَتَيْنِ: تَتَّصِلُ المَرْحَلَةُ الأولى بِشَهادَةِ الماجِسْتير، أَمّا المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ فَتُخْتَتَمُ بِشَهادَةِ الدُّكْتوراه. وَسَنُرَكِّزُ في هَذا المَقالِ على مَرْحَلَةِ الدُّكْتوراه وَحَمَلَتِها.

استمرار وضع الشروط الشكلية في الترشُّح لشهادة الدكتوراه بدل التركيز على المهارات البحثية يُفاقم الأزمة

تُفيدُ مُخْتَلَفُ الإِحْصائِيّاتِ بِأَنَّ أَعْدادَ ما يُعْرَفُ بِالدُكْتورانِيين (حَمَلَةُ شَهاداتِ الدُّكْتوراه) ما فَتِئَتْ تَتَزايَدُ وَتَتَضَخَّمُ مِنْ سَنَةٍ إلى أُخْرى في جُلِّ البُلدانِ العَرَبِيَّة. فَفي تونُس مَثَلًا يُقَدَّرُ عَدَدُهُمْ، حَسَبَ بَعْضِ الجِهاتِ الرَّسْمِيَّةِ، ما يُقارِبُ سَبْعَةَ آلاف. وَيُعاني قُرابَةُ 70% مِنْهُمْ من البَطالَةِ وَالوَضْعِيّاتِ الهَشَّةِ مِثْلَ العُقودِ وَتَدْريسِ السّاعاتِ العَرَضِيَّة.

بِقَدْرِ ما يَدْفَعُ ذَلكَ العَدَدُ الضَّخْمُ للدُّكْتورانِيّينَ إلى الشُّعورِ بِالارْتِياحِ للوَهْلَةِ الأولى بِاعْتِبارِه مُؤَشِّرًا إيجابِيًّا للتَّنْمِيَةِ البَشَرِيَّةِ، فَإِنَّ رَصْدَ أَصْداءَ لِجانِ المُناقَشاتِ وَالمُناظَراتِ الجامِعِيَّةِ تُثيرُ القَلَقَ أَحْيانًا بِحُكْمِ وُجودِ تَبايُنٍ صارِخٍ في مَهاراتِ الدُكْتورانِيّينَ وَقُدُراتِهِمْ لَيْسَ فَقَطْ بَيْنَ مُخْتَلفِ الاخْتِصاصاتِ، وَإِنَّما كَذَلِكَ داخِلَ الاخْتِصاصِ الوَاحِد. فَإِذا كانَ بَعْضُ المُتَرَشِّحينَ يَمْتَلك قُدُراتٍ وَمَهاراتٍ في مَجالِ تَخَصُّصِهِ تُخَوِّلُهُ تَقْديمَ الإِضافَةِ وَاقْتِحامِ سوقِ الشُّغْلِ بِجَسارَةٍ وَجَدارَةٍ، فَإِنَّ البَعْضَ الآخَرَ يَظَلُّ بِحاجَةٍ إلى المَزيدِ من تَدْعيمِ قُدُراتِه. وَهُوَ ما يُفَسِّرُ أَنَّ عَديدَ خُطَطِ الانْتِدابِ وَالتَّرْقِيَةِ تَظَلُّ شاغِرَةً بَعْد مُكابَدَةٍ كَبيرَةٍ من فَتْحِها، على الرَّغْمِ من أَنَّهُ لا يُسْتَبْعَدُ وُجودُ عَوامِلَ أُخْرى وَراءَ ذَلِكَ القُصورِ وَلا سِيَّما ما يَخُصُّ خُطَطَ التَّرْقِيَةِ إلى أَعْلى الرُّتَبِ الأَكاديمِيَّة.

التطوير غير ممكن من دون تغيير الرؤية الدّونِيّة التي ينظر بها صُنّاع القرار العربي إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية

تَطْرَحُ في هَذا المِضْمارِ مَواضيعُ بَعْضِ الأَطاريحِ تُساؤُلاتٍ عَنْ كَيْفِيَّةِ قَبولِها من لِجانِ الدُّكْتوراه. فَمَنْ يَتَصَفَّحُ إعْلاناتِ مُخْتَلَفِ المُؤَسَّساتِ الجامِعِيَّةِ المُتَّصِلَةِ بِمُناقَشَةِ الأَطاريحِ لا يَسْتَغْرِبُ وُجودَ شَكْلٍ من أَشْكالِ الاجْتِرارِ للمَواضيعِ نَفْسِها أَوْ إِعادَةِ صِياغَةٍ لَها في أَحْسَنِ الأَحْوال. وَهُوَ ما يَطْرَحُ أَسْئِلَةً حائِرَةً في مَدى جِدِّيَّةِ الإِشْراف. إذْ تَنْتَشِرُ ظاهِرَةُ الاسْتِقْواءِ أَوْ الاسْتِحْواذِ في الوَسَطِ الجامِعِيّ. فَإِذا كانَ بَعْضُ المُؤَطَّرينَ يُهَيْمِنونَ على نَصيبٍ غالِبٍ من الإِشْرافِ، فَإِنَّ آخَرينَ مَحْرومونَ مِنْهُ سَواءٌ بِفِعْلِ قَناعاتٍ ذاتِيَّةٍ ــ لَمْ يَتَجاوَزْ عَدَدُ الأَطاريحِ التي أَطَّرَها عبد اللَّه العروي أَصابِعَ اليَدِ الواحِدَةِ طيلَةَ مَسيرَتِهِ الجامِعِيَّةِ ــ أَوْ بِفِعْلِ إكْراهاتٍ أُخْرى. وَإِذا أَخَذْنا بِعَيْنِ الاعْتِبارِ البيروقْراطِيَّةَ الإِدارِيَّةَ التي لا تَزالُ بَعيدَةً كُلَّ البُعْدِ عَنْ مُقْتَضَياتِ العَصْرِ الرَّقْميِّ، فَإِنَّ اسْتِمْرارَ وَضْعِ الشُّروطِ الشَّكْلِيَّةِ في التَّرَشُّحِ لِشَهادَةِ الدُّكْتوراه بَدَلَ التَّرْكيزِ على المَهاراتِ البَحْثِيَّةِ، يُفَاقِمُ الأَزْمَة.

لا يُمْكِنُ تَطْويرُ نِظامِ الدِّراساتِ العُلْيا في العُلومِ الإِنْسانِيَّةِ وَالاجْتِماعِيَّةِ من دونِ تَغْييرِ الرُّؤْيَةِ الدّونِيَّةِ التي يَنْظُرُ بِها صُنّاعُ القَرارِ العَرَبيِّ إلَيْها. يَشْمَلُ ذَلِكَ التَّغْييرُ الإِقْرارَ بِمِحْوَرِِيَّتِها في تَدْبيرِ الشَّأْنِ العامِّ وَوَضْعِ السِّياساتِ الثَّقافِيَّةِ بِاعْتِبارِها مُتَّصِلَةً بِالأَمْنِ الفِكْريِّ وَالثَّقافِيّ. وَإِذا تَمَّتْ تِلكَ الخُطْوَةُ، فَإِنَّهُ لا مَناصَ من إنْجازِ إصْلاحاتٍ مُؤَسَّساتِيَّةٍ وَهَيْكَلِيَّةٍ وَتَنْظيمِيَّةٍ، فَالنِّظامُ الحالِيُّ للدِّراساتِ العُلْيا في تِلْكَ العُلومِ لا يُساعِدُ على إِنْجازِ أَعْمالٍ طَويلَةِ النَّفَس. لِذا فَإِنَّهُ في الحالَةِ التونُسِيَّةِ يُسْتَحْسَنُ التَّخَلّي عَنْ مَنْظومَةِ "أمد" في التَّعْليمِ العالي وَتَعْويضِها بِمَنْظومَةٍ أَكْثَرَ عَقْلانِيَّةً قائِمَةً على الدِّراساتِ المُعَمَّقَةِ وَالدُّكْتوراه المُوَحَّدَة.

الانفتاح على الحقول المعرفية يحتاج إلى تدعيمه بشراكات علمية مع البلدان المتقدّمة في تلك النوعية من العلوم

يَتَوَجَّبُ في هَذا الصَّدَدِ تَطْويرُ نِظامِ التَّرَشُّحِ إلى شَهادَةِ الدُّكْتوراه، فَبَدَلَ وَضْعِ شُروطٍ شَكْليَّةٍ لا بُدَّ من التَّرْكيزِ على المَهاراتِ البَحْثِيَّةِ وَالجَوْدَةِ بَدَلَ الكَمِّ، وَاشْتِراطِ النَّشْرِ المُحْكَمِ لعَدَدٍ من المَقالاتِ وَالدِّراسات. وَهُوَ ما يَسْتَدْعي إنْجازَ مِنَصَّاتٍ رَقْمِيَّةٍ لمُتابَعَةِ أَعْدادِ البُحوث. كَما يُمْكِنُ تَطْويرُ الإِشْرافِ من خِلالِ تَقاريرَ تَقْييمِيَّةٍ لجَوْدَةِ الأَطاريحِ التي أَشْرَفَ عَلَيْها كُلُّ مُؤَطِّرٍ مَعَ التَّوَجُّهِ إلى الإِشْرافِ المُشْتَرَكِ عَبْرَ مُؤَطِّرينَ يَنْتَمونَ إلى تَخَصُّصاتٍ مُتَنَوِّعَة.

يُمْكِنُ التَّوَجُّهُ في إِطارِ الإِصْلاحَاتِ المَعْرِفِيَّةِ وَالمَنْهَجِيَّةِ إلى تَطْويرِ المُقارَباتِ مُتَعَدِّدَةِ التَّخَصُّصاتِ أَوْ ما يُعْرَفُ بِالدِّراساتِ البَيْنِيَّةِ بِالانْفِتاحِ على حُقولٍ مَعْرِفِيَّةٍ أُخْرى مِثْلَ الإبستِمولوجْيا وَمَناهِج تَحْليلِ البَياناتِ وَالمَعْطُياتِ وَآليّاتِ اسْتِخْدامِ الذَّكاءِ الاصْطِناعيِّ وَغَيْرِها. وَذَلِكَ الانْفِتاحُ يَحْتاجُ إلى تَدْعيمِهِ بِشَراكاتٍ عِلْمِيَّةٍ مع البُلْدانِ المُتَقَدِّمَةِ في تِلكَ النَّوْعِيَّةِ مِنْ العُلومِ لا سِيَّما في الغَرْبِ حَيْثُ يَتِمُّ اسْتِثْمارُها في وَضْعِ السِّياساتِ العامَّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن