اقتصاد ومال

هل يستطيع الاقتصاد العربي استثمار "حركيّة" الرأسمال؟

محمد زاوي

المشاركة

للرّأسمال قواعد بها يُفهم كظاهرة اقتصادية - اجتماعية، كنظام اجتماعي تشكّل في العالم على مدى أكثر من ستة قرون، وخرج من رحم "العالم القديم" بتدرّج موضوعي إلى أن ساد في مختلف أنحاء العالم بتجارب مختلفة، لعلّ أبرزها اليوم، رأسمالية الاحتكار الغربي، رأسمالية الدولة الوطنية، اشتراكية السوق الصينية. لقد انبثق النوع الأول عن رأسمالية أوروبية تنافسية (الرأسمالية الأوروبية / الرأسمالية الأميركية / اليابان… إلخ)، أمّا الثاني فتجارب شتّى تعرف حظًّا كبيرًا من الاستقلال عن الرأسمال الاحتكاري وتخضع لدولها حديثة العهد بالاستقلال أو بالنّموذج الرأسمالي (روسيا، الهند... إلخ)، فيما تعرف دول "الأحزاب الشيوعية" النّوع الثالث من "الرأسمالية" (بخاصة الصّين التي استطاعت فرض نموذجها الاقتصادي).

هل يستطيع الاقتصاد العربي استثمار

فلنتساءل إذن: إلى أي نوع من الرّأسمالية ينتمي الاقتصاد العربي؟ الاقتصاد العربي اقتصادات، وكلّ اقتصاد منها يرتبط بهذا النّموذج أو ذاك، أو بها جميعها على درجات متفاوتة، وهذا هو الحاصل بالنّسبة للحالة العربية. فإذا أخذنا دولة كالصّين مثلًا، نجد أنّها أقرب إلى مصر منها إلى المغرب. أمّا إذا أخذنا دولة كأميركا، فهي أقرب إلى السعودية منها إلى سوريا (قبل سقوط نظام بشار الأسد). والحديث هنا يتعلق بالعلاقات الاقتصادية، وهذه تعكس تقاربًا في الرؤى والتصورات الجيوسياسية، كما تحمل بين طيّاتها أَمَارَات من القرن الماضي، والعقد الأول من هذا القرن، قبل أن يعرف ميزان القوى الدولي تحوّلات لا تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية بالضرورة.

الرّأسمالية لا تُخلّّد في حيّز جغرافي واحد بل تنتقل من حيّز إلى آخر كما تنتقل أرباحها من نشاط اقتصادي إلى آخر

بغضّ النظر عن هذه الانتماءات المُعقّدة، والتي تزداد تعقيدًا في مجتمعات لم تُعمّم منطق الرأسمال ونظامه على كافّة أنشطتها الاقتصادية؛ بغضّ النظر عن ذلك، فلنتساءل: إلى أي حدّ تستطيع الاقتصادات العربية الاستفادة من قواعد الرأسمال، وأبرزها "حركيّته" العابرة للحدود، من أجل بناء رأسمالات صاعدة قوية ومعمّمة؟.

إنّ الرّأسمالية لا تُخلّّد أبد الدهر الرأسمالي في حيّز جغرافي واحد، بل تنتقل من حيّز إلى آخر كما تنتقل أرباحها من نشاط اقتصادي إلى آخر، فهي لا تنبعث من فراغ، بل تبني تحوّلاتها الاجتماعية على البُنى الاجتماعية والمِلكيات الكبرى القائمة. وهنا نتساءل مجدّدًا: هل يمكن أن ينتقل مركز الثقل الرأسمالي إلى الدول العربية؟ وهل هناك بنى اجتماعية وملكيات كبرى يُبنى عليها التحوّل الاجتماعي الرأسمالي في البلدان العربية؟

بالنسبة لفرناند بروديل، "ليست الرأسمالية نَسَقًا، بل مجموع من الممارسات والعمليات والاستراتيجيات والتكتيكات التي تهمّ مستوى معيّنًا من المبادلات، وهنا تكون الرأسمالية عبر – دولية، ومتعدّدة الجنسيات، ودولية. ليس للرأسمالية سنّ معين أو لها بالأحرى سنّ المبادلات الدولية" (فرناند بروديل، حركيّة الرأسمالية، عيون المقالات، ص 88-89). يفتح هذا النظام أمام الرأسمالات العربية إمكانات للربح خارج الحدود، خصوصًا بالنسبة للرأسمالات النفطية الكبرى في الخليج العربي. إنّ تقدم هذه الرأسمالات في الخارج قد ينعكس على أنشطة الداخل لا محالة، وذلك من جهتين: من جهة تنمية الرأسمال، ومن جهة اكتساب الخبرة الاقتصادية. المُعيق الأكبر أمام هذه العملية هو مدى انسجام منطقيْن: منطق دول الخليج ومنطق رأسمالها. وهذا مُعيق رأسمالي عام لا يسلم منه رأسمال في علاقته بالدولة، بل إنّ الرأسمالات الغربية فيه متفاوتة (المرجع نفسه، ص 57).

وبخصوص الملكيات الكبرى والبنى الاجتماعية التي تُبنى عليها التحوّلات الاجتماعية الرأسمالية، فهي قائمة في الوطن العربي. إنّها فئات اجتماعية راكمت "الرأسمال الأوّلي" بالسيطرة على السلطة والتدبير. فإذا كانت "الرأسمالية لا تخلق التراتبيّات، بل توظّفها مثلما أنّها لم تخلق السوق ولا الاستهلاك"؛ إذا كانت الرأسماليّة كذلك، فإنّ ظروف تعميمها وتنميتها لا يكاد يخلو منها مجتمع عربي، إلّا في تلك المجتمعات التي تعرف اضطرابًا وحالة من الفوضى، كسوريا وليبيا والسودان واليمن... إلخ. إنّه في مجتمع كمِصر حيث تمارس شخصيات مهمة من الجهاز العسكري نشاطًا اقتصاديًا، وفي مجتمع كالسعودية حيث تستثمر شخصيات من العائلة الحاكمة في عددٍ من القطاعات الاقتصادية؛ في مجتمعات كهذيْن المجتمعيْن، تتأسّس قابلية سياسية واقتصادية وإدارية لتعميم الرأسمال وتنميته.

المشكل في بعض الدول العربية لا علاقة له بالتوازنات الداخلية وميزان القوى الدولي بل بضعف الوعي بـ"حركيّة الرأسمال"

والحال أنّ هذه القابلية تبقى محدودة، في شروط العالم الحالي، بعامِلَيْن: أولًا، بعامل داخلي يتجلّى في الوتيرة المسموح بها لتعميم النظام الرأسمالي وتنمية قواه الإنتاجية من دون أن يؤدّي ذلك إلى اضطراب النظام السياسي وإرباك تماسك المجتمع؛ وثانيًا، بعامل خارجي يتجلّى في القيود التي يفرضها "التقسيم الدولي للعمل" على الرأسماليات الوطنية الصاعدة.

وهناك مسلك يمكن اتخاذه في هذا الإطار: أن يشغل الرأسمال العربي المساحة المسموح بها كاملة وبنجاعة وفعالية وتخطيط استراتيجي. المشكل الذي يقع في عدد من الدول العربية أنّ الرأسمال لا يشغل المساحة المسموح بها داخليًا وخارجيًا، في حين يُلقي باللوم على معيقات تمارَس خارج المجال المسموح به. المشكل في هذه الحالة لا علاقة له بقيود التوازنات الداخلية وميزان القوى الدولي، بل بضعف الخبرة وضعف الوعي بـ"حركيّة الرأسمال".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن