يكاد يقارب الدور اللبناني في العالم العربي الدور الإسباني في محيطه الأوروبي كـ"معمل أفكار" تُختبر فيه الأيديولوجيات والأفكار الكبرى. كلا البلدين تعرّض لحرب أهلية ضارية ما زالت ماثلة بدرجات مختلفة تحت الجلد السياسي.
كان انفجار مرفأ بيروت قبل ثلاث سنوات ذروة المأساة اللبنانية، روّعت المدينة كأنها قد ضُربت بقنبلة نووية صغيرة، لا جرت تحقيقات جدّية ولا تبدّت فرص لمعرفة الحقيقة وبدا المستقبل اللبناني معلقًا على حبال المجهول.
قبيل الحرب العالمية الثانية بين عامي 1936 و 1939 نشبت الحرب الأهلية الإسبانية وأسفرت نتائجها عن هزيمة الجمهوريين الاشتراكيين لصالح حكم فاشستي بقيادة الجنرال "فرانشيسكو فرانكو" امتدّ حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي.
ظاهرة شعراء المهجر ساعدت في إعادة بناء الذائقة الأدبية لدى قطاعٍ واسع من الجمهور الثقافي العربي
فيما كانت إسبانيا تلملم جراح حربها الأهلية، بدأت حرب أهلية أخرى في قلب المشرق العربي في ظروف مختلفة وأزمان جديدة دفع لبنان ثمنها باهظًا لنحو ستة عشر عامًا.
في الحالتين "الإسبانية" و"اللبنانية" تبدّت روح مقاومة تراهن على قوة الحياة رغم وطأة وآلام ما جرى.
إسبانيا الجريحة أنتجت أدبًا وفنًا خالدًا عبّر عنه شعراء عظام كـ"لوركا"، وروائيون مجيدون كالأمريكي "إرنست همينجواى" والفرنسي"أندريه ماللرو" وزير ثقافة "شارل ديجول"، وفنانون تشكيليون من حجم "بيكاسو"، الذي أطلّ على العالم بلوحته الملهمة "جويرنيكا"، التي عبّرت عن فظائع ما جرى لتلك المدينة الإسبانية من تدمير إثر غارة جوية ألمانية.
بقدر آخر، احتضنت بيروت قامات شعرية عربية من حجم "محمود درويش" و"نزار قباني" و"أدونيس" ورسام الكاريكاتير الأبرز "ناجي العلي"، فيما جسّدت "فيروز" بصوتها الفريد قدرة المدينة على إلهام معاني الحياة والقدرة على البقاء واجتراح المعجزات.
إنّ أية نظرة تاريخية على الأدوار التي لعبها المثقفون والمبدعون، الذين ينتمون إلى هذه الرقعة من بلاد الشام خلال القرون الثلاثة الأخيرة، تثبت عمق إسهامهم في تأسيس رؤى جديدة وأساليب غير معتادة في فنون المسرح والصحافة والكتابة وفلسفة الحياة.
ساعدت ظاهرة شعراء المهجر أمثال "جبران خليل جبران" و"إيليا أبو ماضي" و"ميخائيل نعيمة" في إعادة بناء الذائقة الأدبية لدى قطاعٍ واسع من الجمهور الثقافي العربي.
تدين النشأة الحديثة للصحافة العربية في مصر لروادٍ من أمثال سليم وبشارة تقلا مؤسسي صحيفة "الأهرام"، وجرجي زيدان مؤسس "دار الهلال"، و"فاطمة اليوسف" التي أسّست مجلة "روزاليوسف" وآخرين.
كانت القاهرة أكثر البيئات العربية تأهبًا لدخول العصور الحديثة، فيما توافرت للمثقفين الشوام روح الريادة والمبادرة.
تداخلت التجربتان الثقافية والفنية في القاهرة وبيروت، كأنهما عاصمة ثقافية واحدة بذائقة فنية مشتركة، بخاصة في مجالَي الغناء والسينما، ألهمت العالم العربي كلّه.
في الحالتين "الإسبانية" و"اللبنانية" تأسّست أوضاع جديدة بعد الحرب الأهلية.
نجحت إسبانيا في تجاوز مرحلة حكم “فرانكو” الفاشية بأقلّ اضطرابات ممكنة. نجح ملكها الشاب "خوان كارلوس"، الذي صعد للحكم بعد وفاة الديكتاتور العجوز، في إدارة التوازنات الحرجة والانتقال إلى الديمقراطية والملكية الدستورية حيث يملك ولا يحكم.
لم تكن رحلة التحوّل الديمقراطية سهلةً ولا الطريق معبدًا.
أهمّ ما يُنسب للملك السابق أنه ألغى ميراث الحرب الأهلية بإسناد رئاسة الحكومة بعد أول انتخابات نيابية حرّة إلى رئيس الوزراء الاشتراكي "فيليب جونزاليس".
درس مجاني نحتاجه في العالم العربي: لا حصانة لأحد إذا ما ثبت تورّطه في قضايا فساد
البطل القومي الإسباني "خوان كارلوس"، الذي اكتسب شعبية كبيرة في فترات من حياته، اضطرّ في نهاية قصّته إلى مغادرة بلاده ملطّخًا بالعار.
لم يشفع له تاريخه بعدما حامت حوله شكوك قضائية عن تلقيه عمولة تُقدّر بمائة مليون دولار وضعت في حساب سرّي بسويسرا على خلفية دور لعبه في تسهيل منح شركات إسبانية عملية تشييد خط قطار فائق السرعة عام 2008.
بأعقاب تنازله عن العرش لابنه الملك "فيليبي" عام 2014 بدأت التحقيقات والملاحقات القضائية.
لا حصانة لأحد إذا ما ثبت تورّطه في قضايا فساد، أيًا ما كان سجلّه السابق في خدمة بلاده.
هذا درس مجاني نحتاجه في العالم العربي.
لا أحد في لبنان بوارد أن يعيد دولارًا واحدًا مما جرى تهريبه إلى بنوك سويسرا، وغير بنوك سويسرا، حتى لو مات البلد نفسه!
على عكس ما جرى في إسبانيا بعد انقضاء حربها الأهلية من تأسيس نظام جديد ينسخ الماضي ويفسح المجال للالتحاق بالعصر، أعاد لبنان باتفاق "الطائف" عام 1989 إنتاج نظامه الطائفي، الذي تأسّست عليه دولته عام 1920.
بتراكم الأزمات شلّت قدرته على التقدّم والنهوض وبناء مستقبله بقواعد الدولة الحديثة.
هناك من هو مستعدّ في العالمين العربي والغربي أن يمضي إلى أبعد حد في تركيع لبنان لأسباب تتعلّق بالصراعات الإقليمية والدولية الجارية وحسابات القوة فيها.
هذه حقيقة لا تخفى على أية نظرة في مرآة الضمير.
(خاص "عروبة 22")