أدّى ذلك إلى نشوء جيلٍ جديدٍ من الدراسات الميكرو-اقتصادية المُحدّدة بدقّة، والتي سعت إلى قياس مدى انتشار الفساد داخل بلدٍ معيّن، وآثار الكفاءة الاقتصادية المترتّبة عن الفساد، والآليات الممكن اعتمادها لتحديد مستوى الفساد: مثل الملاحظة المباشرة، استطلاعات الرأي والاستبيانات، تقدير حجم الفساد من خلال المقارنة بين الإنفاق الفعلي والتكلفة الحقيقيّة (بناء طريق أو سدّ أو مدرسة...)، تقدير حجم الفساد من خلال تحليل مؤشّرات السّوق مثل مراقبة سوق العمل في القطاع العام ورصد الأنماط غير الطبيعيّة من قبيل تكرار الأسماء والعائلات نفسها في قطاعٍ معيّن. كذلك، المُقارنة بين المستوى المعيشي لمسؤولي القطاع العام مقارنةً بالقطاع الخاص نسبةً إلى مدخولهم الشهري، والنظر في شبكات المصالح والنفوذ التي تربط الشركات بالمسؤولين ورجال الدولة أو تدور في حلقاتهم، إضافةً إلى إمكانيّة رصد تقنيّات التحريف والتزييف التي ينتهجها المسؤولون لإخفاء أشكال النّهب والاختلاس من المال العام.
كان من نتائج هذه التطوّرات أن قدّم "مؤشر مدركات الفساد" (CPI) للعام 2023، الذي تُصدره "منظمة الشفافيّة العالمية"، تقريرًا أسود المضامين حول مستويات الفساد في القطاع العام في المنطقة العربية، حدّد متوسط الأداء العربي في 34/100، وباستثناء الإمارات وقطر والسعودية التي صُنّفت ضمن الدول الأعلى أداءً، جاءت باقي الدول العربية ضمن الأداء المتوسط أو المنخفض.
الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُسهم في الحدّ من الآثار السلبية للفساد وتعزيز النزاهة والشفافيّة والحكم الرّشيد
يترافق هذا الواقع مع تزايد ضغط مؤسّسات المجتمع المدني ومواقع التواصل الاجتماعي والإعلام البديل، من أجل اتخاذ إصلاحاتٍ جذريةٍ في مؤسّسات القطاع العام، وتعزيز الشفافيّة والمُساءلة، لمكافحة الفساد، ومواجهة الأصوات المستفيدة من الوضع والتي تسعى إلى مقاومة التغيير، خصوصًا في ظلّ ما تشهده المنطقة العربية من ديناميّة وجوديّة، سياسيّة، ثقافيّة واجتماعيّة في ضوء التحوّلات التكنولوجية والشبكية والعسكرية التي أفرزتها مستجدّات الثورة المعلوماتيّة وأحداث ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ضمن هذه المستجدّات والتحدّيات، يبرز دور الذكاء الاصطناعي كإحدى الأدوات الاستراتيجية الواعدة التي يُمكنها أن تُسهم بشكلٍ فعّالٍ في الحدّ من الآثار السلبية للفساد وتعزيز النزاهة والشفافيّة والحكم الرّشيد في البلدان العربية، وذلك عبر المراقبة الآلية والمستقلّة لأداء المؤسّسات والتبليغ عن وجود آثار مخالفاتٍ أو مؤشرات فسادٍ في العقود والمناقصات ومشتريات الحكومة والتعيينات، بسرعةٍ ودقّةٍ عاليةٍ تتعذّر معها أي محاولة بشرية للتمويه أو التحريف.
أمّا فيما يخص غياب الاستحقاق في الامتحانات والترقيات ومباريات التوظيف والنشاط السياسي، الأمر الذي يسمح يومًا بعد آخر لمَن هم أقلّ كفاءةً واستحقاقًا بتولّي المناصب والمسؤوليات، فيُمكن بناء أنظمةٍ ترشح آليةً محايدةً بناءً على معايير موضوعية واضحة. كما يمكن استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي لاكتشاف الأنماط غير الطبيعيّة في مثل هذه الاستحقاقات مثل النجاح غير المُبَرّر على الرَّغم من ضعف الملف العِلمي، أو تدنّي الأداء المهني أو السياسي، ومن ثمّ التقليل من التدخّل البشري الذي قد يفتح المجال للفساد والسلوك المهني غير المشروع قانونيًّا وأخلاقيًّا. كما يمكن بناء منصّاتٍ مدعومةٍ بالذكاء الاصطناعي، تُمَكّن المواطنين من الإبلاغ عن الفساد بيُسرٍ وأمانٍ، مع ضمان متابعة هذه البلاغات وتحليلها آليًا، لرصد الشكايات والاتهامات المتكرّرة بالفساد ومن ثم فتح التحقيقات.
الإصلاح يبدأ من بناء وتهذيب وإصلاح عقول الأفراد
في الختام، لا يخرج الذكاء الاصطناعي عن سياق أي اختراعٍ بشريّ، لناحية حلّ المشكلات وتلافي الأزمات، ومن ثمّ يمكن لهذه التكنولوجيا أن تلعب دورًا حاسمًا في تعزيز دعوات الإصلاح المُتعالية في البلاد العربية، وإيجاد بيئة اجتماعية وسياسية وإدارية تتميّز بالشفافيّة والنزاهة والمردوديّة، وهو ما سيقود حتمًا مشاريع الإصلاح نحو أهدافها. لكنّ هذا المقترح بدورِه قد يتعثّر أمام تحدّيات ومخاطر أخرى، بخاصة أنّ الأبحاث الحديثة حول الفساد تُظهر أنّ المسؤولين الفاسدين قادرون على التكيّف مع مرور الوقت، إذ يتأقلمون مع التغيّرات في بيئتهم، وفي بعض الحالات يعوّضون سياسات مكافحة الفساد بطرقٍ جديدةٍ تتجاوز الإجراءات الاحترازية للوصول من جديد إلى الرّيع ونهب المال العام. ومن ثمّ، فالإصلاح لا ينبغي له أن يبدأ من الآلة أو النظام، بل يبدأ - كما فعل سقراط يومًا - من بناء وتهذيب وإصلاح عقول الأفراد، وبخاصّة الشباب.
(خاص "عروبة 22")