تأتي هذه الخطوة في مناخٍ دولي وإقليمي ترسّخ فيه الرّبط بين الإصلاح الاقتصادي والخصخصة في النموذج الليبيرالي الذي يسوّقه "صندوق النقد الدولي" وكيل وخادم الرّأسمالية العالمية الذي جعل من الخصخصة أيقونةً مقدّسةً لا يجوز المساس بها، على الرَّغم من أنها نقيض ذلك كليًا، وهي بمثابة بوابة للفساد ونهب المال العام وتحويله لجيوب خاصة محلّية ودولية في غالب الأحيان.
حقوق ودور القطاع الخاص بعيدًا عن الخصخصة
الأمر الطبيعي بالنسبة إلى حقوق ودور القطاع الخاص في أي اقتصاد حرّ هو أن يتمّ فتح المجالات كافّة أمامه في بيئة مشجعة، وأن تتمَّ إزالة العوائق البيروقراطية المعوّقة له، وتسهيل إجراءات تأسيس الأعمال والتخارج منها وضمان التزام الأفراد بتعاقداتهم واحترام حقوق الملكية المادية والفكرية، وتسهيل وتسريع إجراءات التقاضي، وضمان حرّية التجارة وعدالتها، وتحقيق الاستقرار للسياسة النقدية ولسعر الصرف بصورة تُمكّن المستثمرين من بناء الحسابات المستقبلية التي تقوم عليها أي استثمارات جديدة، وتوفير نظام جيّد للتعليم والتدريب قادر على إمداد سوق العمل بقوّة عمل متعلمة ومدرَّبة، وضبط الأسعار وإبعاد الاقتصاد عن حمّى التضخّم التي تثير الاضطراب في أي حسابات استثمارية، وتؤدّي لرفع معدّلات الفائدة التي تؤدّي لجمودٍ وربما ركود الاقتصاد.
عملية نهب عملاقة مثقلة بفساد مروّع في الغالبية الساحقة من عمليات الخصخصة
أمّا بيْع الممتلكات العامة سواء من صنع الإنسان (المشروعات)، أو من منح الطبيعة (الأرض والمياه والجزر)، فهي مجرّد عمليات بيْع للأصول العامة لتوفير موارد مالية لتغطية ومعالجة التعثّر المالي للحكومات غيْر الناجحة في إدارة الاقتصاد، وتصل إلى حدّ التفريط في جغرافيا الوطن عندما يتعلّق الأمر ببيع الأصول الطبيعية لطرف أجنبي. وهي سياسة تلجأ إليها الحكومات المتعثّرة، بمنطقٍ بائسٍ أقرب لمن يبيع بيته لتمويل إنفاقه الجاري، ثم يعيش في العراء ويورث أبناءه وضعًا بائسًا وتابعًا. وحتّى المبرّرات الكاذبة الخاصّة بتوسيع قاعدة الملكية فقد كفّت الجهات الدولية عن ترديدها، لأنّها أقرب للمسخرة إذ إنّ الملكية العامة هي أوسع قاعدة للملكية، وليس بيع الممتلكات العامّة لفرد أو لشركة.
الخصخصة آلية إيديولوجية لنهب الدول النامية المتعثّرة ماليًا
ابتدعت الرّأسمالية العالمية سياسة الخصخصة في بلدانها لمعالجة وتقييد فوائض الأموال الساخنة بتحويلها لشراء أصول ثابتة، ولانتقالها في نهاية سبعينيّات القرن الماضي، إلى نموذجٍ اقتصاديّ متطرّفٍ إيديولوجيًا يستبعد أي دور اقتصادي للدولة، وذلك بعد أن أدّى النموذج الرّأسمالي "الكينزي" القائم على دورٍ مهمّ للدولة في تحقيق التوازن الاقتصادي والتشغيل، دورَه التاريخي في إنقاذ الرّأسماليات الغربيّة من الكساد العظيم النّاجم عن تفاقم نتائج طبيعتها الاستغلالية والاستحواذية في ثلاثينيّات القرن الماضي، ومكّنها من تعبئة مواردها لتمويل الحرب العالمية الثانية، ومكّنها بعد ذلك من إعادة بناء ما خرّبته تلك الحرب واستعادة وتعزيز دورها العالمي أو الإمبريالي اقتصاديًا.
لكنّ "الخصخصة" تحوّلت بعد ذلك إلى آليّة عملاقة لسلب ما بنته شعوب الدول النامية من لحمها الحيّ، لصالح الرّأسمالية العالمية وما يتبعها من رأسمالياتٍ محليةٍ بأسعارٍ تقلّ كثيرًا عن قيمتها الحقيقية في عملية نهب عملاقة مثقلة بفسادٍ مروّعٍ في الغالبية الساحقة من عمليات الخصخصة في تلك الدول عبر فساد وإفساد البيروقراطية الإدارية والسياسية فيها.
الاستثمارات "الزائفة" وقطع الطريق على الاستثمارات الحقيقية الجديدة
من المُفارقات أنّ بيع الأصول العامّة المصنوعة والطبيعيّة للأجانب، يتمّ تسجيلها باعتبارها استثمارات أجنبية مباشرة على الرَّغم من أنها لم تُضِفْ أيّ أصل استثماري جديد للاقتصاد، إنما هي مجرّد عمليات استحواذ على أصول قائمة ومنتجة فعليًا، ومسمّاها الحقيقي هو استثمارات أجنبية زائفة.
الرّقابة الشعبية لا يمكن أن تتحقّق إلّا في نظام ديموقراطي حقيقي وكامل
والأسوأ أنّ عمليات بيع الشركات المحلّية للأجانب أو حتّى للرّأسمالية المحلّية تعني في حقيقتها قطع الطريق على استثمارات جديدة محتملة، لأنّها ببساطة حوّلت الأموال المتوفّرة لدى الرّأسمالية المحلية والأجنبية الراغبة في الاستثمار في الاقتصاد المحلّي إلى شراء أصول قائمة فعلًا، بدلًا من إنشاء أصول جديدة تخلق فرصًا للعمل وتبني طاقات إنتاجيّة وقدرات تصديرية إضافية للاقتصاد.
كذلك، فإنّ الخصخصة التي تتضمّن مبرّراتها، أنّ القطاع العام يعتبر مركزًا للفساد الحكومي، قد تكون مناسِبة لعمليات فساد تفوق كلّ ما عداها من فساد إذا تمّت في غياب الرّقابة الشعبية التي لا يمكن أن تتحقّق إلّا في نظام ديموقراطي حقيقي وكامل يتمّ فيه تداول السلطة والمعلومات.
أمّا تقييم الأصول العامة المطروحة للخصخصة، فإنّه يتمّ من خلال قيام جهة محلية أو أجنبية مخوّلة من الحكومة بالتقييم، بما ينطوي عليه ذلك من احتمالات تخفيض أسعار هذه الأصول عن قيمتها السوقيّة الحقيقيّة عند طرحها للبيع، لصالح مستثمر استراتيجي أو مجموعة مستثمرين، وذلك مقابل رشى وعمولات. وأحيانًا يتمّ التقييم من خلال المزادات والعطاءات وبيع أسهم الشركات العامّة في البورصة، أو وِفقًا لسعرها وقت التداول إذا كانت شرائح منها قد طُرحت في البورصة من قبل.
ما يتم بيعه هو أفضل الأصول العالية الربحية من دون أي مبرّر سوى تعثّر وفشل الحكومة وانصياعها لصندوق النقد
كذلك اخترع القائمون على الخصخصة ما سُمّي بـ"عروض الشراء"، عبر تقديم عروض لشراء الأصل العام المطروح للبيع مع اختيار العرض الأفضل. وهي عملية تعكس الرّغبة في البيع بأي ثمن وتغري المُشترين لتخفيض السعر خصوصًا إذا كانت هناك فرصة للترتيب فيما بينهم في سياق شبكة المصالح التي يمكن لهم تبادلها. أمّا البيع لمستثمر استراتيجي فإنّه في غير صالح مستثمري الأقلية، حيث يتحكّم بهم كليًا ويهدر حقوقهم.
أمّا الآلية التي تُدمّر قيمة الأصول العامّة المطروحة للخصخصة للأجانب فهي تخفيض سعر صرف العملة المحلية قبل الخصخصة، بحيث يؤدّي ذلك إلى تقليل قيمة الأصول المُراد خصخصتها مقدّرةً بالدولار. لكنّ الدولة يمكنها تحديد سعر الأصول العامة بناءً على سعر تعادل القوى الشرائية بين العملة المحلية والدولار، والمعلن من صندوق النقد الدولي لدى بيع أي أصل عام للأجانب، وإن كان الأفضل هو إيقاف هذه العملية كليًا، خصوصًا أنّ ما يتم بيعه هو أفضل الأصول العالية الربحية من دون أي مبرّر، سوى تعثر وفشل الحكومة وانصياعها لصندوق النقد الذي يلحّ دائمًا على هذا البيع الفاسد للأصول العامة!.
(خاص "عروبة 22")