من خلالِ سرْد هذه القصص المأساوية، يأمل صانعو الأفلام في الحفاظ على ذكرى أولئك الذين لقوا حتفهم، ولفْت الانتباه إلى الطبيعة المنهجيّة لانتهاكات حقوق الإنسان.
من ألمانيا النازية إلى غزّة... مهزلة التاريخ وعار الصمت
من أبرز الأمثلة على الأفلام التي تتناول موضوع الإبادة الجماعية فيلم "قائمة شندلر"، من إخراج ستيفن سبيلبرغ. يروي هذا الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار القصة الحقيقية لأوسكار شندلر، رجل الأعمال الألماني الذي أنقذ أكثر من ألف لاجئ يهودي من الهولوكوست.
اشتهر الفيلم بتصويره المروّع للحياة في معسكرات الاعتقال النازيّة، بالإضافة إلى التناقض الصّارخ بين دوافع شندلر الأنانية الأوّلية وتحوّله الأخلاقي في النهاية. من خلال صوره المؤلمة وأدائه القوي، يؤكد فيلم "قائمة شندلر" على حجم الدمار وثنائية القسوة والرّحمة داخل النفس البشرية.
فيلم مهمٌ آخر في هذا النوع هو "فندق رواندا"، من إخراج تيري جورج. تدور أحداث الفيلم على خلفيّة الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي قُتل خلالها ما يُقدّر بنحو مليون إنسان من أقلية التوتسي على يد أغلبية الهوتو.
تدور القصة حول بول روسيساباجينا، مدير فندق آوى أكثر من ألف لاجئ في فندقه مع اندلاع العنف. يُسلّط الفيلم الضوءَ على تعقيدات التوتّرات السياسية والعِرقية والاجتماعية في المنطقة، بالإضافة إلى فشل المجتمع الدولي في التدخّل. إنّه بمثابة تذكير صارخ بمخاطِر تجاهل المذابح الجماعية، وما يترتّب عنها من فاتورة أخلاقية ثقيلة دفعها المجتمع الدولي ولا يزال، نتيجة الصّمت السلبي أمام الفظائع والجرائم المروعة في حق المدنيّين العُزَّل التي ما زالت تدور رحاها في العديد من دول العالم، وعلى رأسها الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
أما فيلم "حقول القتل"، من إخراج رولان جوفي، فيُركِّز على نظام الخمير الحمر في كمبوديا من عام 1975 إلى عام 1979، حين قُتل ما يُقدّر بنحو مليوني شخص في محاولة لإنشاء مجتمع زراعي شيوعي.
يحكي الفيلم قصة صحافي كمبودي، ديث بران، الذي وقع في قبضة وحشية النظام. من خلال تصويره الحي لكلّ من جمال ورعب كمبوديا خلال ذلك الوقت، ويوفِّر الفيلم نظرةً ثاقبةً على الإيديولوجيات السياسيّة وراء الإبادة الجماعية والتأثير المُدمّر في الأفراد المحاصَرين في دوّامة الاستبداد.
وتتناول أفلام مثل "عازف البيانو"، من إخراج رومان بولانسكي، أيضًا موضوعات الإبادة الجماعية، وإنْ كان من خلال عدسةٍ مختلفة. تدور أحداث الفيلم خلال فترة أربعينيّات القرن العشرين، ويتتبّع حياة فلاديسلاف شبيلمان، وهو عازف بيانو بولندي نجا من غيتو وارسو وأهوال الاحتلال النازي. وعلى الرَّغم من أنّ الفيلم لا يركّز فقط على الإبادة الجماعية، إلّا أنّ تصويره مؤثّر في غريزة البقاء والمرونة النّفسية وسط الدمار. وهو بمثابة تذكير بقدرة الروح البشرية على تحمّل المعاناة والألم.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذا النوع من الأفلام التي تُقدّم معاناة الأقليّات العِرقية تحت وطأة الحكم النازي، قد فشلت في مناقشة تحوّل "ضحايا" الأمس إلى جلّادي اليوم، في قالب مأساوي يُلخّص عبثية التاريخ الإنساني وكيف يُصرّ هذا التاريخ على إعادة نفسِه على شكل مهزلة دموية مقيتة.
حين ترصد الوثائقيّات فعل القتل من "المسافة صفر"
تلعب الأفلام الوثائقيّة أيضًا دورًا مهمًا في تسليط الضوء على أحداث الإبادة الجماعية. إذ يستكشف فيلما "فعل القتل" و"نظرة الصمت"، من إخراج جوشوا أوبنهايمر، عمليات القتل الجماعي الإندونيسية في عامي 1965 و1966، والتي قُتل فيها ما يُقدّر بنحو نصف مليون شخص.
تتبع هذه الأفلام الوثائقية نهجًا فريدًا من خلال إجراء مقابلات مع مرتكبي جرائم القتل، مانحةً الجمهور نظرةً مرعبةً على عقول مرتكبي العنف، بالإضافة إلى الصدمة التي لا تزال باقية في ذاكرة الناجين.
وفي السياق نفسِه، نجد الفيلم الوثائقي الفلسطيني "من المسافة صفر" الذي يُلقي نظرةً مُقرّبةً على حياة الفلسطينيين في خضمّ الصراع الدائر في الشرق الأوسط. يُسلّط هذا الفيلم الوثائقي الضوء على القصص الإنسانية للصمود والبقاء والأمل في مواجهة حرب الإبادة من خلال المقابلات الشخصية، كما يُجسّد المعاناة النّفسية للحرب والنزوح والفقد، ويُظهر في الوقت نفسِه الروح الصامدة لشعبٍ يسعى إلى السلام والعدالة. يُقدّم الفيلم سردًا قويًا للنضال، مُسلّطًا الضوء على وجهات نظر الفلسطينيين التي غالبًا ما تُغفَل، مُشدّدًا على ضرورة التعاطف والتفاهم في السعي إلى حلّ دائم.
لا يمكن المبالغة في أهمّية الأفلام التي تتناول موضوع الإبادة الجماعية، فهي لا تُعدّ سجلّات تاريخية فحسب، بل تُمثّل تحذيراتٍ من مخاطر التعصّب والكراهية والسلطة المطلقة. ومن خلال الحفاظ على هذه القصص حيةً، يضمن صانعو الأفلام أن تفهم الأجيال القادمة العواقب الكارثيّة للإبادة الجماعية، مما يُلهم الجهود المبذولة للوقاية من هذه الفظائع وتحقيق العدالة لضحاياها.
(خاص "عروبة 22")