تعكس هذه الحالة تحوّلًا في الحياة السورية، يوازي كثيرًا من تحوّلات حدثت وتطوّرت طوال عقد ونيف من سنوات، بدأت عندما كتب أولاد درعا على حائط مدرسة: "إجاك الدور يا دكتور"، في إشارة إلى الرغبة في إطلاق ثورة للخلاص من واقع الدكتاتورية والفساد اللذين يمثّلهما نظام الأسد، ومن أجل حياتهم ومستقبل بلدهم، وكانت الحادثة أبرز تعبيرات القيام بدور كان يُفترض أن يقوم به الآباء.
مقتل الطفل حمزة الخطيب نموذج للانتهاكات الفردية، وأول هجوم كيماوي على غوطة دمشق مثال للمجازر الجماعية
واستجرّت مبادرة إطلاق ثورة السوريين في درعا أنحاء سورية أخرى، ذهاب الشباب من أعمار مختلفة للمشاركة في فعاليات الثورة بما فيها من تظاهرات واعتصامات، بل إنّ الأكبر سنًا منهم كانوا في بؤرة تنظيم الحراك الشعبي وفي التغطية الإعلامية لإحداثه بكل الوسائل، ومعالجة تداعياته في مجالات الصحة والإغاثة والإسكان، تعبيرًا عن دور وحضور أكبر عاشه الشباب السوريين في السنوات التالية بكل ما فيها من ظروف شديدة القسوة، هرست طفولة أغلبهم وحوّلتهم إلى رجال بصورة سريعة وعاجلة عبر حلقات صعبة في الحياة.
أولى الصعوبات التي أصابت حياة الأطفال، كانت تعرّضهم للقتل والإصابة والاعتقال على يد أجهزة المخابرات والجيش ومليشيات النظام، وقد نظّمت مؤسسات إنسانية وحقوقية سورية وأجنبية مئات التقارير عن الانتهاكات التي تعرّض لها الأطفال بصورة فردية وجماعية، ويمثّل مقتل الطفل حمزة الخطيب (13 سنة) تحت التعذيب وتشويهه في أيار 2011 نموذجًا للانتهاكات الفردية، فيما يمثّل أول هجوم كيماوي على غوطة دمشق في آب 2013 مثالًا للمجازر الجماعية، حيث قُتل أكثر من 1500 شخص أكثرهم من الأطفال والنساء.
وباستثناء تعرّض الأولاد والشباب للعنف الإجرامي الذي كان جزءًا من نهج النظام في مواجهة السوريين، فقد تعرّضوا إلى نسق خاص من عنف، كانت في تفاصليه عمليات قصف المدارس من قبل وحدات جيش النظام، وقد دمّرت كليًا أو جزئيًا أكثر من 1600 مدرسة من مراحل تعليم مختلفة، وشارك في جريمة التدمير القوات الروسية وجماعات مسلحة بينها "داعش" و"النصرة"، وامتدّ هذا النسق من العنف إلى إصابة كثير من الجامعات والمعاهد السورية بأضرار، وقتل وجرح أعداد كبيرة من الأولاد والشباب ومن كادرات جهاز التعليم في خلال هذا النسق من العمليات العسكرية.
إنّ الأثر المباشر للهجوم على المؤسسات التعليمية وتدميرها، كان سببًا في وقف التعليم العام في مراحله المختلفة وفي معظم أنحاء البلاد، وهو أمر ترتّبت عليه ثلاث نتائج كارثية: أولها خراب وانهيار التعليم الرسمي في كل جوانبه، والثانية ظهور أشكال دنيا من التعليم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، منها تعليم ديني مشوّه في شمال غرب سوريا، وتعليم تُديره الإدارة الذاتية في شرق الفرات مشبّعًا برؤية إيدلوجية - سياسية متشدّدة، والثالثة خروج أغلب الأولاد والشباب السوريين من العملية التعليمية، تجسّدت واقعًا شائعًا في سوريا وشتات السوريين خصوصًا في تركيا ولبنان والأردن، حيث أكبر كتلة من السوريين المهجّرين.
إنّ الناجين من كارثة تعليم السوريين قلّة قليلة، قد لا تتجاوز نسبة العشرة بالمائة في أحسن الأحوال، ويتركّز حضورهم في أوساط اللاجئين السوريين في الدول الأوروبية، حيث تتوفّر فرص التعليم المنوّعة، والقسم الآخر من الناجين هم أبناء النخبة من المقيمين في البلدان العربية والأجنبية الذين يتيح لهم استقرار الإقامة، وتغطية نفقات التعليم، فرصة التقدّم فيه.
السواد الاعظم من الأولاد والشباب السوريين ذهبوا إلى سوق العمل، ليس من أجل اكتساب مهنة أو تعلّم خبرة أو صنعة فقط، بل للمشاركة في تلبية احتياجات عيش أسرهم، التي لم تفقد مواردها وممتلكاتها فقط بسبب الدمار والتهجير، بل إضافةً إلى ما سبق بسبب وفاة المعيل وسط تقدير مقتل أكثر من مليون سوري في الحرب وفي المعتقلات، وبسبب مئات آلاف حالات الاعتقال والاختفاء القسري، أو إصابات الإعاقة الناتجة عن إصابات وتعذيب.
إذا قُدّر لسوريا أن تقودها إدارة رشيدة فأبرز دلالات رشدها ستظهر في قدرتها على استثمار طاقات الشباب
كان قدر الأولاد والشباب، أن يدخلوا تجارب متعددة وخاصة بالنسبة للإناث، أغلبها تجارب صعبة وشديدة القسوة، ناتجة عن الكارثة التي صار إليها السوريون سواء في بلادهم، التي مزّقتها الحرب ودمّرتها، وأغرقت سكّانها بالفقر، وهجّرت كثيرًا من أصحابها، أو في بلدان اللجوء التي تمتدّ مشاكل الحياة فيها من فكرة الاختلاف مع البلد المضيف إلى صعوبة ظروف العيش والعمل وما يرافقها من الصعوبات القانونية والإدارية، وما يضاف إليها من صعود نزعات التطرّف العنصرية ضد اللاجئين والمقيمين، وتكريس سياسات تنمّر ضدّهم، والمطالبة بترحيلهم.
لقد دفعت سنوات الحرب وما صاحبها من تطورات مأساوية الشباب للخوض في معترك إثبات الذات، وظهرت في أوساط المتعلّمين نماذج كثيرة شديدة التميّز في مجالات مختلفة، تشكّل ملامح لنخبة موزّعة بين سوريا والشتات في اهتماماتها وفي توظيف قدراتها، ومساعدة السوريين في الوصول إلى حلّ لقضيتهم، والمساهمة في إعادة إعمار سوريا، كما خلقت فئة من شباب في سوريا والشتات، يملكون قدرات وخبرات عملية، وهم مثل السابقين يتوزّعون بين الميل أكثر نحو العودة إلى سوريا، وقلّة يغلب أن تستقرّ في الشتات، لكن التقديرات الشائعة، أنها ستكون جزءًا من النواة الصلبة في إعادة بناء سوريا.
واذا قُدّر لسوريا القريبة، أن تقودها إدارة رشيدة ومخلصة، فإنّ أبرز دلالات رشدها، سوف تظهر في قدرتها على إدارة واستثمار طاقات الشباب، وخاصة الفئات الهامشية محدودة التعليم وغير المتعلّمة، الذين ولدوا وكبروا في جحيم سنوات الصراع وتداعياته، فسوريا القادمة ستحتاج إلى كثير من طاقات، وسيكون الهمّ الرئيس استثمار فكرة أنّ الأولاد والشباب صاروا في عمر الرجال.
(خاص "عروبة 22")