العرب المحدثون، مسلمون ومسيحيون، هم قطب الرحى في عالم إسلامي يمثل ربع العمران البشري الآن. وهم ورثة حضارة إسلامية مثّلت القطب الاستراتيجي الوحيد الذي تمكّن، لأربعة قرون كاملة، من فرض هيمنته على عالم البحر المتوسط، والتحكّم في طرق التجارة الدولية، وحبس أوروبا داخل حدودها، بل واحتلال بعض أراضيها. وعلى الرَّغم من تخلّفهم الراهن، تظل الذاكرة الغربية ترى في تاريخهم الزاخر، وكتلتهم الحيوية ركيزةً صالحةً لبعث حضاري جديد لا بدَّ وأن يصاحبه تشكيل هوية استراتيجية تستعصي على الهيمنة الغربية. ولهذا فإنهم لا يصلحون لدور الجماعة الوظيفيّة، التي يسهل استتباعها على نحو دائم وآمن من أي ردّة فعل تاريخية.
أمّا اليهود المحدثون فأقلية لا تزيد عن خمسة عشر مليون نسمة، لا يتجذّرون في تجربة حضارية مُلهمة وإنما في تجارب شتات مؤلمة. ومن ثم فليس لديهم كتلة حيوية تجعلهم جسدًا قويًا، ولا حتّى تجربة حضارية تمنحهم روحًا ملهمة. ولذا فلا خوف منهم، بل يمكن استتباعهم وتوظيفهم بدرجةٍ عاليةٍ من الأمان ضدّ أي ردة فعل تاريخية. هكذا قرر الغرب أن يضرب الجسد العربي بالسوط اليهودي، عندما ألقى باليهود كقنابل ملغومة في جغرافيتنا السياسية، لكن يظلّ الطرفان خاسريْن معًا وفي الجوهر.
توحّد اليهود الصهاينة مع الحضارة الغربية الطاردة ثم عادوا ليغرسوا أنيابهم في أحشاء الحضارة العربية الحاضنة
لقد خسر اليهود إرثًا طويلًا من التسامح تمتعوا به داخل الحضارة العربية الإسلامية، حيث لمعَ أبرز فلاسفتهم ووصل بعضُهم إلى قمّة الصّف الثاني من المناصب السياسية، ولم تبدأ معاناتهم إلّا مع غروب شمس الحضارة العربية، فكانوا يُذبحون ويُطردون مع المسلمين خصوصًا في القدس والأندلس، حيث ذهب أغلبهم إلى بلدان شمال أفريقيا، وعاشوا فيها قرونًا عدّة. بل إنّهم، حتى الحرب العالمية الثانية، كانوا يتمتّعون بتعاطف المسلمين في بلغاريا وتركيا ضد اضطهاد النّازي، إلى درجة المغامرة بالتستّر عليهم، أحيانًا في بيوتهم. بل إنّ الفكر القومي العربي، احتفظ بتراث التسامح الإسلامي معهم حتّى حرب السويس على الأقل، حينما بدأ اليهود أنفسهم في إعادة تكييف هويتهم كصهاينة والهجرة إلى إسرائيل.
أما في فلسطين نفسِها، فكان اليهود التقليديون موجودين خصوصًا في القدس، حيث بلغت نسبتهم نحو 3% مطلع القرن العشرين، ولم يكن وجودهم يُمثّل أي مشكلة حقيقيّة لعرب فلسطين، الذين كانوا يُرحّبون بالهجرة اليهودية في مراحلها الأولى لأن القادمين كانوا يزيدون من النشاط الاقتصادي ومن فرص التبادل التجاري ومن ثم يجلبون الازدهار لهم، فيما كان اليهود التقليديون في فلسطين، وتلك مفارقة، يرفضون تلك الهجرة، لأنهم يعرفون مراميها الصهيونية، ويخشون من نتائجها التي ظلّ العرب يجهلونها حتى أفصحت هي عن نفسِها.
نخب الحكم الغربية تدافع بكلّ شراسة عن الدولة الإسرائيلية ليس لأجل اليهود بل باعتبارها استثمارًا استراتيجيًا ناجحًا
أمّا العرب فخسروا ما هو أكبر، عندما دخلوا العصر الحديث وهم مُعقّدون نفسيًا بفعل الهزيمة أمام الصهيونية، كحركةٍ قوميةٍ علمانية، نبتت من رحم الحركات القومية الأوروبية إبان القرن التاسع عشر، لا علاقة لها بالديانة اليهودية، بدعمٍ من أوروبا التي خلقت المسألة اليهودية من الأساس عندما حاصرت اليهود في تجاويفها العمرانية، واصطنعت إشكالية العداء للسّامية، قبل أن تشرع في طردهم إلى خارجها وصولًا إلى المحرقة النّازية. وقد زاد من مرارة الهزيمة ذلك الشعور المصاحب لها بالخيانة الحضارية، حيث توحد اليهود الصهاينة نفسيًا مع الحضارة الغربية الطاردة، ثم عادوا ليغرسوا أنيابهم في أحشاء الحضارة العربية الحاضنة. وهكذا دفع العرب الثمن مرتيْن:
الأولى للغرب، خصوصًا بريطانيا، التي تعهّدت برعاية الحلم الصهيوني في مواكبة هيمنتها الإمبراطورية. والولايات المتحدة التي رعت الدولة الإسرائيلية في مواكبة قطبيّتها المنفردة حتّى صارت قلعةً عسكريةً متقدّمةً، تشبه إمارة بيت المقدس الصليبية، ويدافع عنها نخب الحكم الغربية بكلّ شراسة ممكنة، ليس لأجل اليهود أنفسِهم، بل باعتبارها استثمارًا استراتيجيًا ناجحًا.
والثانية لليهود الصهاينة كمحض أنذال وأغبياء، توسّلوا بالوحش التاريخي، الذي اعتاد مطاردتهم طيلة العصور الوسطى بذريعة المسؤولية عن دم السيّد المسيح، وفي العصر الحديث بذريعة تدنيس العِرق الآري، لقتل صاحب البيت الذي طالما استضافهم في فناء حديقته، ليتغذّوا من بعض ثماره، فهل ثمّة خيانة أكبر من ذلك؟.
لا يحتاج الإسرائيلي أكثر من النظر في مرآة التاريخ كي يشعر بالعار الحضاري.
(خاص "عروبة 22")