بصمات

المثقّف والسلطة: مَن يخدم مَن؟

هيكل والمتنبّي، قصّة لا بدّ أن نفرد لها مجالًا لحديثٍ مطوّل، وكذلك علاقة هيكل وكيسنجر تستحقّ المزيد من التأمّل، لكلٍ منهما تأثير بالغ فيه، على الرَّغم من الفروق الواضحة بينهم في الزمان والمكان والظروف. يُشكِّل كلُّ واحدٍ منهم نموذجًا شهيرًا وعلامةً بارزةً في تاريخ العلاقة بين المثقّف والحاكِم. بينهم فروق كثيرة، لكن يجمعهم أنّهم لم يرضوا بدور "خادم الأمير"، بل راح كلّ منهم يتحسّس خطاه في أروقة القوّة والسلطة مدفوعًا بطموحٍ ليست له حدود، يبحث عن أميرٍ "يستخدمه" لا أن يخدمه كما هو المتوقع.

المثقّف والسلطة: مَن يخدم مَن؟

لكلٍّ منهم محاولته للتأثير في السلطة، وكلٌ منهم استخدم كفاءته لابتداع طريقته الخاصة في التعامل مع الحاكِم، ولا شكّ أن المتنبّي هو الأقرب إلى قلب وعقل هيكل، وإلى تجربته مع فوارق يفرضها تبايُن الظروف ويبرّرها اختلاف الأحوال.

كان المتنبّي في عصرِه ملك الكلمة، وأصبح هيكل، الذي يحفظ العشرات من أشعاره، خليفته على عرش الكلمة في عصره، ولكلّ عصر أسلوبه، وأدواته التي تعكس التحدّيات التي يواجهها المثقّف في التعامل مع السلطة.

وكما عمل المتنبّي إلى جانب وبالقرب من رجل دولة مثل سيف الدولة الحمداني، ثمّ إلى جوار حاكِم مثل كافور، عمل هيكل مع وبالقرب من رجلٍ بحجم ودور زعيم مثل جمال عبد الناصر، ثم تَابع مسيرته بجانب حاكِم مثل أنور السادات.

ثنائية "الاستخدام مقابل الخدمة" هي واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في علاقة المثقّف بالسلطة

ظلّ المتنبّي وفيًّا لسيف الدولة على الرَّغم من أنّه لم يحقّق له طموحه، مع ذلك هجا كافورًا للسبب نفسِه، والأنكى أنّه ركّز في هجائه على أصله الحبشي وسواد بشرته، وسخر منه بطريقة عنصرية شديدة، حين قال: "لا تشتَرِ العبدَ إلّا والعصا معهُ، إنَّ العبيدَ لأنجاسٌ مناكيدُ".

على المنوال نفسِه ظلّ هيكل وفيًا لعبد الناصر وبطريقته هجا السادات، ووقع في الخطيئة نفسِها، حين ركّز على كونِه: "ابن بنت عبد زنجي، ورث عن أمّه كل تقاطيعها، وورث مع هذه التقاطيع مشاعر غاصت في أعماقه إلى بعيد".

حفظ هيكل عشرات الأبيات من شعر أبي الطيّب مبرّرًا ذلك بأنّه تدريب للذاكرة، كي تظل حيةً نابضةً، وهو تفسير لا يقول الحقيقةَ كلّها، ذلك أنّ انحياز هيكل للمتنبّي لم يكن مجرّد ولع بشعر الشاعر، بل هو ـ في ظنّي ـ ولع بالشاعر، بالنموذج مكتملًا، موهبةً وطموحًا، مواهبه الفكرية، وطموحاته السياسية.

وكما المتنبّي ـ أيضًا ـ كان أكثر ما يقلق هيكل هو الحفاظ على أمنه الشخصي على طول مشواره بالقرب من السلطة، وربما ـ من هذه النقطة بالذّات ـ جاء وقوفه مع "كافوره" في مواجهته مع "مراكز القوى" في مايو/أيار سنة 1971.

المتنبّي لم يكن مجرد شاعر مدّاح، بل كان يرى نفسه شخصًا استثنائيًا، يعتقد أنّ الحُكمَ ليس حِكرًا على الملوك التقليديين. حين قدم على كافور، لم يكن يريد مجرّد العطايا مثل باقي الشعراء، كان يطمح إلى منصب سياسي، لكنّه عندما أدرك أنّ كافور لن يمنحه هذا الطموح، شعر بالإهانة وانقلب عليه بالهجاء.

على العكس، ظلّ طموح هيكل أن يكونَ قريبًا من صانع القرار، وهو يدرك تمامًا ثنائية العلاقة بين المثقّف والسلطة، تلك الثنائية التي تجيب على سؤال مَن يستخدم مَن؟.

هذه الثنائية التي يطرحها هيكل ـ الاستخدام مقابل الخدمة ـ هي واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في علاقة المثقّف بالسلطة. المفترض، كما يقول هيكل، أنّ المثقف يخدم الحاكم بأن يكون مرشدًا فكريًا أو مستشارًا نزيهًا، لكنّ الواقع في الكثير من الأحيان يُظهر العكس: المثقّف الطموح يبحث عن أمير يستخدمه ليحقّق أهدافه.

المثقّف الطّموح لا يريد أن يكون مجرّد تابع بل يسعى إلى التأثير أو حتّى السيطرة على السلطة أو بعضها

كان المتنبّي، كما هيكل وكيسنجر، عظيم الطموح معتدًّا بنفسه وبدوره يردّد: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي"، سعى في زمنه إلى تحقيق حلمه المستحيل في أن يكون المفكّر حاكِمًا، ولو في إمارةٍ صغيرةٍ، ومن ناحيته سعى هيكل إلى الاقتراب من عقل وقلب السادات، ولعلّ أحد أهم مسبّبات أن يقف هيكل مع السادات هو طموحه إلى أن تسهّل شخصية السادات عليه تحقيق الحلم المستحيل في أن يصبح المفكّر حاكِمًا ولو بالواسطة.

هيكل رأى أنّ كيسنجر كان نموذجًا للمثقّف الذي استخدم السلطة، لم يكن مجرّد مستشار أو ديبلوماسي، بل تولّى توجيه وصناعة القرار بنفسِه، حتّى صار أكثر نفوذًا من بعض الرؤساء الذين خدمهم.

وهذا هو ديدن المثقّف الطّموح الذي لا يريد أن يكون مجرّد تابع، بل يسعى إلى التأثير أو حتّى السيطرة على السلطة أو بعضها، وهذا بالضّبط ما حاول المتنبّي فعله مع كافور، لكنّه فشل، فترك هجاءً تحوّل إلى لعنةٍ تاريخيةٍ على كافور.

هيكل، المتنبّي، وكيسنجر، يمثلون ثلاثة وجوه لثنائية العلاقة بين المثقّف والسلطة، كلّ واحد منهم تعامَل مع الحاكِم بأسلوبٍ مختلفٍ، لكنّ المشترك بينهم هو أنّهم جميعًا لم يكتفوا بدور "المثقّف في خدمة الأمير"، بل تطلّعوا إلى استخدام السلطة.

فشِل المتنبي عندما لم يحصل على ما يريد، فانقلب على كافور بهجاءٍ قاسٍ ظلّ عالقًا به عبْر الزمن، ولم يستطع التأثير في السلطة، فانتقم بالكلمات.

كيسنجر نجح في "استخدام الأمير" حتى صار صانع قرار، بخاصة في السياسة الخارجية. استطاع أن يستخدم السلطة ليكون هو اللاعب الرئيسي في العلاقات الدولية، لم يهجُ أحدًا كما فعل المتنبّي، لكنه بقي في الظلّ يحرّك الخيوط.

أما هيكل فقد استخدم الأمير وخدَمَه في الوقت نفسِه، كان أقرب المستشارين إلى جوار عبد الناصر، لم يكن مجرّد تابعٍ، بل كان جزءًا من صناعة القرار.

بعد رحيل عبد الناصر، حافظ هيكل على قربه من السادات قرابة أربع سنوات، حتى افترقت بهما الطرق، فغادر محتارًا مقعده الأثير فوق دائرة صنع القرار في مصر، ما يعني أنّه لم يكن مجرّد موظّف في خدمة السلطة، بل استخدمها لبناء مكانته الفكرية والسياسية.

التأثير الناشئ عن "سلطة المثقّف" يبقى فِعلُه ويستمرّ أثره في المستقبل

المتنبّي هو صورة المثقّف العربي الذي رغب بشدة في أن يكون المثقّف أميرًا، وهو المثقّف الذي اقترب عن طريق قلمه ـ كما فعل هيكل ـ من السلطة وظلّ في أحضانها ثم عندما لفظه السلطان دانت له سلطة المثقّف.

من المتفق عليه أنّ أفضل أدوار هيكل هي تلك التي جاءت بعد انقطاع علاقته بالسلطة تمامًا، بعدما تفرّغ لدوره الأهم، ذاق حلاوة التأثير الناشئ عن "سلطة المثقّف" التي لم يكن يعرف لها طعمًا من قبل، ذلك التأثير الذي يبقى فِعلُه ويستمرّ أثره في المستقبل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن