إثر أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023) طرح وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن، مشروع التهجير من غزّة إلى سيناء في الغرف المغلقة، غير أنّه جوبه برفضٍ مصريّ فلسطينيّ أردنيّ مشترك مدعومًا عربيًا ودوليّا.
لوّحت مصر بـ"تعليق"، لا "إلغاء" اتفاقية "كامب ديفيد"، إذا مضت إسرائيل في مشروع التهجير القسري. اضطرَّت إدارة "جو بايدن" إلى التراجع خشية تقويض أهمّ إنجاز استراتيجي أميركي وإسرائيلي في الخمسين سنة الأخيرة والإضرار بمصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط. كان ذلك تراجعًا مؤقتًا.
مسألة التهجير تعني التفريط في سيناء وخسارة السيادة عليها إلى الأبد
عندما صعد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مجدّدًا، طرح مشروع التهجير من جديد بزخمٍ غير مسبوق داعيًا إلى "تطهير غزّة" من أهلها بذريعة أنّ الحياة فيها باتت مستحيلة.
انطوى التعبير الترامبي على حمولات عنصرية بالغة الفجاجة لا يقبلها أي ضمير إنساني. إنّه تطهير عِرقي وتصفية نهائية للقضية الفلسطينية. مرّةً أخرى، بدا الموقف المصري متماسكًا وصلبًا.
على الرَّغم من أيّ تحفظات على مستوى الأداء السياسي والديبلوماسي أمام تحدّيات حرب الإبادة على غزّة، إلّا أنّه لم يكن هناك أيّ تردّد في مسألة التهجير، التي تعني بالضبط التفريط في سيناء وخسارة السيادة عليها إلى الأبد.
حاول ترامب الاستثمار في الأزمة الاقتصادية المصرية الخانقة لتمرير مشروع التهجير إلى سيناء مقابل تسديد ديونها الخارجية المتراكمة. إنّها مقايضة على السيادة واحترام البلد لنفسِه. لم يكن في طاقة النّظام الحالي، ولا أيّ نظام مصري آخر الإقدام على هذه الخطوة.
من المستحيل تمامًا أن تضيع سيناء، التي اكتسبت قداستها في الضمير المصري ورمزيّتها في الأمن القومي من دماء عشرات آلاف الضباط والجنود، الذين خاضوا كلّ حروبها الحديثة من دون طلقة رصاص واحدة.
في لحظة مواجهة الحقائق، الكلمة الأخيرة للوطنية المصرية، التي نهضت دومًا لحماية البلد في أسوأ الظروف وأمام أعتى التحدّيات.
تحتاج مصر الآن إلى أن تنتبه لمستوى الخطر الداهم وتستدعيَ كامل طاقتها في الرفض والمقاومة. لا يصحّ النظر إلى التوتّر على الحدود باعتباره عارضًا يمكن تطويقه بالوسائل السياسية وحدها.
بات مستقبل اتفاقية "كامب ديفيد" محلّ تساؤل وشكّ
خروقات إسرائيل تتصاعد في مستوى خطورتها. خرقت البروتوكولات الأمنية لاتفاقية "كامب ديفيد" بلا اكتراث بأي التزامات موقعة.
احتلّت محور فيلادلفيا من دون أي ترتيبات أمنية تستلزم الموافقة المصرية المُسبقة. التهاون أغراها بالإمعان في خروقاتها. الأفدح أنّها ألغت اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة، الذي يُلزمها بالانسحاب من فيلادلفيا.
سيطرت على الجانب الفلسطيني من معبر رفح الحدودي من دون اكتراث آخر بالاتفاقيات الموقّعة. منعت وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر لإحكام التجويع عليه حتى يكون ممكنًا دعوة الجوعى إلى التهجير طوعيّا. حمّلت مصر مسؤولية إغلاق المعبر على ما ادّعت طوال الوقت أمام المجتمع الدولي، من دون أن يكون هناك ردّ مفحم يردّ بالأفعال على ذلك الاتهام البشع.
زاد منسوب الاتهامات المتبادلة بخرق البروتوكولات الأمنية إلى حدودٍ غير مسبوقة حتى بات مستقبل اتفاقية "كامب ديفيد" نفسها محلّ تساؤل وشكّ.
أخيرًا انتقلت إسرائيل من الاتهامات العمومية إلى المطالبات المحدّدة، داعيةً إلى ما أسمته: "تفكيك البنية العسكرية المصرية في سيناء".
بمعنى آخر، إلزام مصر بقيود "كامب ديفيد" الصارمة، من دون أن تلتزم هي بأي قيد وفق أي اتفاقية، كأنّ المطلوب هو إلغاء أي قدرة مصرية على صدّ أي عدوان محتمل، أو أن يجري التهجير قسريًا بقوّة السلاح إلى سيناء بلا مقاومة.
حسب ما هو منشور في الصحف الإسرائيلية فإنّ المقصود بالبنية التحتية: "بناء عوائق مضادة للدبابات وإنشاء مطارات ومخازن سلاح وأنفاق تحت قناة السويس".
بطلبٍ إسرائيلي دخل ترامب على الخط ليمارس ضغوطه.
ليس من الوارد أي تراجع مصري عن مقتضيات حماية حدودها. إنّه نوع من الرّدع لمنع العدوان.
وقف حَرْبَيْ التجويع والإبادة في غزّة وإعادة إعمارها من جديد وفق الورقة المصرية، التي باتت عربيةً بعد قمة القاهرة الطارئة، شرطان جوهريّان لمنع التهجير قسريًا، أو طوعيًا.
لا تلتفت تل أبيب إلى ما تطرحه القاهرة من مبادرات سياسية، وتمضي في مشروع التهجير باعتباره الهدف الأعلى من حربها على غزّة.
ممّا يجري التفكير فيه الآن السيطرة بفرق عسكرية كاملة على مدينة رفح جنوب قطاع غزة وإخلاؤها من سكّانها وفتح ممرات إلى سيناء تأهُّبًا للحظة المنتظرة.
إنّها الحرب جبرًا، لا اختيارًا.
في لحظة مواجهة الحقائق تبدّدت الأوهام كلّها مرّةً واحدة
لا تعني المشاركة المصرية المعتادة في المناورات الجوّية السنوية التي تستضيفها اليونان، مع الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أوروبية وثلاث دول خليجية، أنّ الحرب مستبعدة. هذا وهمٌ كبير.
المفارقة الكبرى أنّ تلك المناورة الجوية تستهدف "تعزيز الشراكات الاستراتيجية"، فيما إسرائيل تُمعن بحربَيْ الإبادة والتجويع ولا تُبدي أدنى تراجعٍ عن مشروع التهجير، ساعيةً إلى فرض شرق أوسط جديد يستجيب لمصالحها على حساب كل ما هو عربي.
"لا بد من واقِعة".. هكذا قال سعد زغلول، زعيم ثورة (1919) عندما يئس من أي استجابة بريطانية لطلب الاستقلال.
نحن الآن في وضعٍ مماثلٍ، ربما أخطر وأفدح.
في لحظة مواجهة الحقائق تبدّدت الأوهام كلّها مرّةً واحدة؛ أنّ حرب أكتوبر آخر الحروب، وأنّ الولايات المتحدة حليف استراتيجي و"كامب ديفيد" اتفاقية مقدّسة!.
(خاص "عروبة 22")