تقدير موقف

الكُرد في الملف السوري

يُشكّلُ الكرد نحو خمسة عشر بالمائة من إجمالي السكان، وهم ثاني مجموعة قوميّة من مكوّنات الجماعة الوطنية في سوريا، حيث تأتي نسبتهم بعد العرب وقبل التركمان والشركس والسريان الأشوريين والأرمن وآخرين، وينتشرون في معظم محافظات الشمال ودمشق في الجنوب، وأبرز مناطق تمركزهم مدينة القامشلي ومحيطها في محافظة الحسكة، ورأس العين ومحيطها في الرقّة، وفي مدينة حلب ومنطقة عفرين ومحيطها، إضافة الى وجودهم الملموس في مدينة دمشق.

الكُرد في الملف السوري

يتوزّع الكرد سياسيًا بين كتلتيْن رئيسيتيْن: حزب الاتحاد الديموقراطي السوري والتنظيمات المساندة له، وجماعات صغيرة قومية وسياسية متحالفة معه في مجلس سوريا الديموقراطية "مسد" وبعضها مشارك في قوات سوريا الديموقراطية "قسد" اللذيْن يُمثّلان على التوالي الجناحيْن السياسي والعسكري للإدارة الذّاتية في شمال شرق سوريا. والكتلة الثانية هي مجموعة أحزاب وتنظيمات سياسية ومنظمات مدنية وشخصيات مستقلّة متحالفة في إطار المجلس الوطني الكردي، ويتبع المجلس تشكيل مسلح من نحو عشرة آلاف مقاتل، يُعسكرُ في إقليم شمال العراق، وقد منعت الإدارة الذاتية على مدار سنوات دخوله الأراضي السورية، وهذا أحد أسباب الخلاف الكردي - الكردي، كما أنّ سيطرة الإدارة الذاتية على الموارد المحلية في مناطق سيطرتها والتصرّف بها سبب آخر، والسبب الثالث تقييد ومنع المجلس الوطني وأحزابه ونشطائه من ممارسة أي نشاطات تتعارض مع، أو لا تنال موافقة، الإدارة الذاتية وحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي.

إنّ سياسة التفرّد والسيطرة، التي تمارسها الإدارة الذاتية ضدّ المجلس الوطني الكردي، لا تخصّ الأخير فقط، بل تتجاوزه باعتبارها الشكل السّائد في علاقة الإدارة مع المكوّنات السياسية والجماعات القومية والتنظيمات المدنية، وهو ملخّص سياسة الإدارة مع الآخرين: حليف كلّ من يعمل وفق رؤيتنا، وعدوّ خصم كلّ من يعارض أو يُبدي ملاحظات، ممّا جعل كلّ القوى أمام الخضوع لإملاءات الإدارة لقاء الرّضا عنها وإعطاء ممثلين عنها مناصب محدودة في مناطق سيطرتها، والقليل من المساعدات، أو محاربتها بحجّة العلاقة مع تركيا والقوى السياسية والمسلّحة الموالية لها وبينها تنظيمات وشخصيات كردية وعربية، أو اعتبارها قوى معادية متطرّفة تُناصر تنظيم "داعش"، وتنتمي إليه، وهي الاتهامات التي تُلقى على عرب شمال شرق سوريا.

فرض انهيار نظام الأسد تغييرات كبيرة على مكانة الكرد في الملف السوري نتيجة تغيير خريطة القوى وتأثيرها في الواقع

استندت "الإدارة الذاتية" في التعامل مع السوريين في المناطق التي كانت خارجة عن سيطرة نظام الأسد إلى ثلاثة مرتكزات:

أوّلها، سيطرتها على مناطق غنيّة في شمال شرق سوريا، وفيها القسم الأكبر من الغاز والنفط والكهرباء، ومناطق إنتاج الحبوب في سوريا.

والثاني، بناء قوة كيانية إدارية وسياسية وعسكرية - أمنية، تحظى بدعم ومساندة التحالف الدولي للحرب على "داعش" بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

والعامل الثالث، إدارة سياسية محلّية وإقليمية، تقوم على تفاهمات مشتركة مع نظام الأسد وإيران.

كان بين تعبيرات ذلك وجود مربّعات أمنية تابعة للنظام في الحسكة والقامشلي ومطارها، واتفاقات اقتسام وبيع النفط، وخطوط التواصل السياسي بين الجانبيْن، التي استمرّت سنوات، وكلّها منعت المواجهات المسلحة بين الطرفيْن، وخفّفت حدّة الاختلافات السياسية. ولم تكن سياسات "الإدارة الذاتية" حيال نظام الأسد معزولةً عن علاقاتها مع إيران ووجودها العسكري في سوريا، حيث لم تُسجَّل على مدار سنوات الصراع احتكاكات او صدامات مسلحة ولا مواجهات سياسية بين الطرفيْن وفي مناطق تماسِهما، فقد كان عداء الطرفيْن للأتراك وللسوريين من حلفائهم والمتّصلين بهم بمن فيهم كرد سوريا، موجِّه علاقات الإدارة الذاتية مع طهران وأذرعها وصنائعها في سوريا.

فرض انهيار نظام الأسد في كانون الثاني/ديسمبر 2024 تغييرات كبيرة على مكانة الكرد في الملف السوري نتيجة تغيير خريطة القوى وتأثيرها في الواقع. إذ انحسرت مكانة كلّ من روسيا وإيران، وسقط نظام الأسد، وتصاعد الدور التركي، وصعد معه دور القوّة المسلحة من حلفائه والمقرّبين منه وبينها "هيئة تحرير الشام"، التي قادت معركة "ردّ العدوان" وفرضت سيطرتها على الدولة السورية وعاصمتها دمشق، وهي عملية ما كان لها أن تمرَّ بعيدًا عن موقف إقليمي دولي، يُناصر إسقاط نظام الأسد وصعود النظام الجديد.

"الإدارة الذاتية" اليوم أمام تحدّي التزامها تنفيذ الاتفاقات

وسط التغييرات العاصفة، مضى كرد سوريا في خطواتٍ متزامنةٍ استجابةً لمصلحتهم من جهة، ولضغوطاتٍ دوليةٍ وبخاصّة من جانب الولايات المتحدة من جهة ثانية، كان بينها تقارب كردي/كردي بين الإدارة الذاتية والمجلس الوطني نحو توحيد موقف الطرفيْن او التقريب بينهما، والثاني القيام بخطوات تقارب مع العهد السوري الجديد، وجاء في سياق التقارب رفع علم الثّورة في مناطق الإدارة الذاتية، والترحيب بالتغيير السوري، وزيارة قائد "قسد" الجنرال مظلوم عبدي مرّتيْن إلى دمشق، ولقاؤه الرئيس أحمد الشّرع وتوقيع اتفاقين لترتيب علاقتهما في إطار كيان واحد يجمعهما، غير أنّ النتائج العملية ما زالت محدودةً بانتظار نتائج منسجمة مع أجواء التقارب.

"الإدارة الذاتية" اليوم أمام تحدّي التزامها تنفيذ الاتفاقات التي تمّت ويتمّ التوصّل إليها، وهو أمر لم يتمّ الالتزام به في اتفاقاتها مع المجلس الوطني الكردي طوال اثنتي عشرة سنة مضت، وهو ما تحاول تكراره اليوم بصدد اتفاقَي الإدارة الذاتية والعهد السّوري الجديد وسط انتظار الأخير وصمته، لكنّ المراهنة اليوم مختلفة في ظروفها وأطرافها، ومن الخطأ توقّع نتائج تشبه نتائج سابقتها!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن