صحافة

حديث العزلة الأمريكية.. قراءة واقعية

محمد خالد الأزعر

المشاركة
حديث العزلة الأمريكية.. قراءة واقعية

هل تعجل بعض المعنيين بمدارات العلاقات الدولية، على الصعيدين النظري والتطبيقي، حين فسروا الشعارات التي لم يمل الرئيس ترامب من ترديدها منذ ولايته الأولى، مثل "أمريكا أولاً"، و"استعادة العظمة الأمريكية"، على أنها إيذان بتسيد الدعوة والداعين إلى عزلة الولايات المتحدة؟. يبدو أن الأمر كذلك بالفعل.

لقد ذهب هؤلاء إلى أن توجهات ترامب وإدارته، مستلهمة من تحذيرات وسنن بعض آباء الدولة المؤسسين، كجورج واشنطن وجيمس مونرو.. التي مفادها عدم الخضوع لإغراءات التحالفات الخارجية، والنأي بالدولة عن الخلافات الأوروبية بالذات.. ونحسب أن القفزة، التي يعنيها هذا الربط الخطي بين الماضي والحاضر، تتعارض معرفياً مع وقائع ومعطيات، تثبت خطأ افتراض التزام الولايات المتحدة منذ ميلادها قبل 250 عاماً، بموقع المراقب عن بعد، أو اضطلاعها بأدوار محدودة من التغلغل في شؤون العالم!

تأمل المشهد الدولي بمنظور بانورامي، خلال الحقبة الممتدة من عمر الدولة الأمريكية، التي بالمناسبة ولدت كبيرة، وأوتيت موارد جبارة منذ نشأتها، لا يسوغ التسليم بهذا الافتراض. وعند الاقتراب أكثر من تفصيلات هذا المشهد، نوقن بأن حديث عزلة هذه الدولة وعدم انغماسها واحتفاظها بمسافة من الغمار الدولية، ظل أقرب إلى اليوتوبيا أو الفكر الرغبوي.. كيف لا، وقد كان مونرو، أحد رواد هذا الحديث، هو صاحب مبدأ اتخاذ قارة بحجم أمريكا اللاتينية حديقة خلفية لدولته الفتية، محظور على القوى الأوروبية كلها التدافع داخلها أو حولها!

ثم إن حديث العزلة التقليدي المتصور، لا يصمد، بل ويفقد كثيراً من مصداقيته، أمام السيرة الذاتية للتفاعلات الداخلية للدولة الأمريكية، وفيضانها وتأثيراتها في المحيطات الخارجية.. فبعد بضعة عقود من إنشائها، تطورت بنيتها الزراعية والصناعية، إلى الدرجة التي بات لزاماً عليها البحث عن أسواق خارجية، تستوعب الطفرة في الإنتاج عن الاستهلاك الداخلي. كما تصاعد جموح رؤوس الأموال المتراكمة لديها، المصحوبة والمعمدة بتقدم علمي وتقني مدهش، إلى حماية هذا التوسع المطرد.

هذا التواكب أو التزامن بين التطورات الداخلية الفارقة، وبين الميل إلى مزيد من التعامل مع عوالم الآخرين، متعدد الأوجه، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً بخاصة، يكاد يحاكي التجربة الأوروبية الرأسمالية. ولعل أحد الفوارق بين التجربتين، يتعلق بعدم أفول خيار العزلة بالكلية بين يدي المناظرات الفكرية والسياسية في النموذج الأمريكي.. لكن الغلبة ظلت عموماً لصالح الاتجاهات المعاكسة.

أحد التقارير المتخصصة في رصد الصراعات العالمية، ذكر مؤخراً أن الولايات المتحدة منذ نشأتها حتى مستهل ولاية ترامب الثانية، تدخلت عسكرياً بشكل مباشر أو غير مباشر في 97 حالة، بالجوارين القريب والبعيد.. ومضى إلى أن "هذا الأمر كان وراء تشكيل وإعادة تشكيل الخرائط الجيوغرافية والجيوستراتيجية، لعدد كبير من المجتمعات في مختلف أنحاء المعمورة، بما يوافق الأهواء والمصالح الأمريكية"

واللافت أن عدداً معتبراً من هذه التدخلات، تم في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، حين كان الكونغرس الأمريكي يحاول تمرير صيغ قانونية تمنع الاحتكاك بالمنازعات الخارجية! ظاهر حال الانتشار الراهن لمصالح الولايات المتحدة وكياناتها وأدوارها، ومفردات عوامل قوتها ونفوذها بكل المعاني والمواصفات، بحيثية سمحت، وما زالت، تسمح لها بالتربع على قمة هرم قوى الكوكب، لا يمنح فرصة لتطبيق مفهوم العزلة. وتقديرنا أن تبصر هذه المكانة الاستثنائية، يثير التساؤل عما إن كان بوسع واشنطن، تحت قيادة ترامب أو سواه، الانسلال من المعترك الدولي والاعتكاف بها خلف المحيطين الأطلسي والهادي. هذا الأمر لم يتحقق في السابق، ولا هو الآن وحتى إشعار آخر، قابل للتحقق بالبساطة التي يتخيلها البعض.

بكلام آخر، الولايات المتحدة حاضرة في موقع القلب من معظم، وربما من كل، أنماط التفاعلات العالمية. وهو حضور فاعل إلى أقصى التوقعات، ولعله بات يقوم ويتدحرج على ما يشبه قوة الدفع الذاتي.. بحيث يصعب، إن لم يستحل، لملمة أوراقه أو فرملته أو حرفه عن مساره. هذه هي القناعة التي نقترحها، منطلقاً لمقاربة السياسات والإجراءات، التي يضطلع بها "الزعيم ترامب"...

فالرجل الذي تراوده مشروعات توسعية إقليمية، من قبيل ضم بنما وكندا وغرينلاند، ويحلم بتحويل غزة إلى منتجع سياحي، ويسعى لتسوية قضية أوكرانيا بما يشبه الاتفاق الودي مع روسيا، وبمعزل عن رؤى الحلفاء الأوروبيين، ويتحدى "المنافس" الصيني بشيء من التشدد، ويهدد بالتعامل المسلح مع إيران، ويطلق يد إسرائيل لتفعل ما تشاء في الرحاب الفلسطينية، وربما الشرق أوسطية، ويفرض تعريفات جمركية تضع اقتصادات الدنيا بأسرها على صفيح ساخن، ويدعو لإصلاح ميزانيته العسكرية، لتتلاءم، بزعمه، مع تقوية الردع وكسب الحروب، ولا يعبأ بالقوانين والتنظيمات الدولية..

الرجل الذي يفعل ذلك ومثله، بمنطق مشوب بالاستعلاء والاستقواء، مستخدماً أساليب الإملاءات الجالبة للعداوات أكثير بكثير من أدوات التفاوض والتفاهم، لا يضمر الانسحاب ببلاده من المعمعة الدولية.. بل نظنه أميل إلى إتيان العكس على طول الخط.

(البيان الإماراتية)

يتم التصفح الآن