حرب اقتصادية تقودها الولايات المتحدة الاميركية لا تقل ضراوة عن الحروب العسكرية المستعرة في المنطقة والتي ترخي بثقلها على المواطنين والمستثمرين الذين يعيشون على وقع التغيرات والتقلبات المتسارعة وسط مخاوف حقيقية من تبدلات في موازين القوى واصطفافات دولية جديدة لمواجهة تداعيات السياسات التجارية الأميركية على الاقتصاد العالمي وما يرافقها من تقلبات حادة تشهدها اسواق الاسهم المالية وسط تعاظم الحديث عن أن سيناريو الركود الاقتصادي والتضخم في الولايات المتحدة هو الأعلى احتمالًا.
ونتيجة لما يجري، شهدت الأسواق الأميركية والعالمية حالة من التدهور والفوضى بعد التجاذب المستمر بين واشنطن وبكين والاجراءات "الانتقامية" المضادة بين أكبر دولتين اقتصاديتين في العالم، لتضاعف من المخاوف العالمية من نشوب حرب تجارية تضر بمختلف اقتصاديات العالم، بعدما فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفعًا "فوريًا" للرسوم الجمركية على السلع الصينية إلى 125 % ردًا على ما اعتبره "عدم احترام الصين للأسواق العالمية"، بينما تراجع فجأة عن فرض رسوم جمركية على معظم الدول لمدة 90 يومًا. ويحذر الخبراء والمحللين من هذه التقلبات الحادة دون وجود رؤية واضحة خاصة ان ترامب يستخدم سياسة التهديد والوعيد كما هو الحال في مقاربته للملفات السياسية.
ومن الاقتصاد الى السياسة، تتصاعد المؤشرات نحو إعادة تثبيت الهدنة في قطاع غزة وذلك من خلال المساعي الحثيثة التي يبذلها الوسطاء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة ومصر من أجل وقف حمام الدم الجاري بعد التصعيد الاسرائيلي المكثف والسعي الى فرض وقائع ميدانية جديدة غداة اعلان وزير الدفاع يسرائيل كاتس السيطرة على "مساحات واسعة" من غزة "ودمجها في المناطق الأمنية الإسرائيلية بما يقلل من مساحة القطاع ويجعله أكثر عزلة". وجدد كاتس دعوته الأهالي الى الإطاحة بـ"حماس" وإعادة الرهائن "كسبيل وحيد لإنهاء الحرب"، مشيرًا إلى أن إسرائيل تعمل على تنفيذ خطة الرئيس ترامب "للهجرة الطوعية" لسكان غزة.
إزاء ذلك التصعيد الخطير، بحث وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو، خلال لقاء في واشنطن مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان، الجهود الدبلوماسية لإطلاق سراح الرهائن في غزة ووقف القتال مع نزع سلاح حركة "حماس" وتجريدها من السلطة، حسب نص البيان الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية. وبانتظار ما ستؤول اليه الضغوط والمشاورات، يواصل الاحتلال مجازره حاصدًا المزيد من الارواح والضحايا وأخرها في حي الشجاعية موقعًا 35 شهيدًا معظهم من النساء والاطفال، فيما تتعالى الاصوات الداعية الى ضرورة ادخال المساعدات الانسانية العاجلة بعد تردي الاوضاع بشكل كارثي غير مسبوق مع نفاذ الطحين والوقود وانقطاع دائم للكهرباء والمياه.
وتستخدم اسرائيل التجويع كأداة للتركيع والضغط على "حماس" لاطلاق سراح الرهائن المحتجزين لديها، والذين بات مصيرهم غير واضح مع تشديد القصف والغارات الاسرائيلية على مختلف مناطق القطاع. ويبدو أن أولوية ادارة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتيناهو توسيع رقعة احتلالها للأراضي على حساب العمل الجدي للتفاوض بشأن الأسرى الذين تتظاهر عائلاتهم بشكل دائم مطالبة بوقف الحرب فورًا، الا أن مطالبها لا تلقى آذانًا صاغية لدى دوائر القرار.
فعلى الرغم من القتل اليومي والغارات العنيفة طوال عام ونصف العام، فشلت تل أبيب في تحقيق أهداف الحرب التي رفعتها، فهي لم تستطع اطلاق سراح أسراها الا عبر التفاوض الذي لا تزال قنواته شبه متوقفة مع اعتماد نتنياهو سياسة الضغوط بدلًا من المضي قدمًا في تطبيق بنود الاتفاق السابق الذي دخلت مرحلته الأولى حيّز التنفيذ في 19 كانون الثاني/ يناير الماضي. الا أنه ومنذ استئناف الحرب وسعت تل أبيب من نطاق عملياتها وأصدرت أوامر اخلاء جديدة أدت الى نزوح الفلسطينيين من مكان الى أخر دون أن يكون هناك منطقة آمنة تحميهم من بطش ألة القتل الاسرائيلية. وبات واضحًا ان اسرائيل تعمدت نقض الاتفاق لفرض قواعد جديدة ومنها توسيع المنطقة العازلة وضم مدينة رفح اليها، والتي تشكل نحو 20% من مساحة قطاع غزة وكان يقطنها ما يقرب 200 ألف فلسطيني، أصبحوا جميعًا في عداد النازحين بعد تدمير منازلهم وتحويل المدينة الى كومة من ركام.
هذه الوقائع التي باتت أشبه بروتين يومي في قطاع غزة المنكوب الذي يواجه أهله القتل والجوع والنزوح، لا تختلف عما يعانيه أهل الضفة الغربية من تنكيل واضطهاد من قبل الجيش الاسرائيلي وذلك بعد الاعلان عن توسيع العملية العسكرية في نابلس وما رافقها من حملة اعتقالات ومداهمات واسعة. وكما غزة كذلك الضفة تشهد على حملة تهجير ممنهجة وضغوط يومية عبر الاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين وهدم منازلهم لتوسيع نطاق الاستيطان الذي يشهد على توقيع خطط جديدة ومتسارعة. يُذكر أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن، أمس، أن بلاده قد تعترف بدولة فلسطين في شهر حزيران/ يونيو المقبل، دون تقديم المزيد من التوضيح وذلك بعد زيارته الى القاهرة وتفقده مع رئيسها عبدالفتاح السيسي لاوضاع الجرحى الفلسطينيين في منطقة العريش الحدودية.
أما المشهد السوري، فتتداخل فيه العديد من الدول، خاصة بعد تزايد التهديدات الاسرائيلية للادارة السورية الجديدة رفضًا لما تسميه تل أبيب تعاظم الدور التركي في سوريا، والذي لا يخدم أجندتها التوسعية في المنطقة. ومن هنا كان اعلان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، أمس، أن بلاده "تجري محادثات فنية مع إسرائيل لخفض التوتر في سوريا عند الحاجة"، مجددًا التأكيد على أن أنقرة "ليس لديها أي نية للدخول في صراع مع أي دولة في سوريا، بما في ذلك إسرائيل". وتأتي تعليقات وزير الخارجية التركي بعد تصريح الرئيس الأميركي خلال لقائه مع نتنياهو قبل أيام، والتي حث فيه الإسرائيليين على التصرف بعقلانية لحل أي مشكلة مع تركيا.
ومن سوريا الى لبنان الذي تشهد أراضيه على تزايد الخروقات الاسرائيلية في وقت بات الحديث عن سحب سلاح "حزب الله" يطغى على ما عداه من ملفات، لاسيما بعد اعلان الحزب، وفق مصادر قيادية، عن استعداده لمناقشة مسألة سلاحه في سياق استراتيجية دفاع وطني، لكنه ربط ذلك بضرورة تحقيق الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الأراضي اللبنانية. وكانت وكالة "رويترز" نقلت عن مصدرَين مطلعَين على تفكير "حزب الله"، أنه يدرس تسليم أسلحته الثقيلة شمال الليطاني، بما في ذلك الطائرات المسيّرة والصواريخ المضادة للدبابات، إلى الجيش اللبناني.
في سياق متصل، تترقب المنطقة ما سينتج عن المفاوضات الاميركية - الايرانية المزمع اجراؤها يوم السبت المقبل في سلطنة عُمان، والتي من المقرر أن تتطرق الى برنامج طهران النووي. ويشكك العديد من الإيرانيين في أن تأتي المحادثات بنتائج ايجابية خصوصًا لجهة ما تمر به طهران من ظروف اقليمية ودولية ضاغطة تفرض عليها تقديم الكثير من التنازلات. تزامنًا، قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إن الحوار في مسقط، "سيكون غير مباشر"، وأضاف: "كما صرح المرشد علي خامنئي نحن مستعدون للحوار والتعامل، لكن يجب أن يكون ذلك غير مباشر ويحفظ كرامتنا ويشمل ضمانات واضحة؛ لأننا لا نزال غير واثقين بالطرف الآخر".
وعليه، تكثر التناقضات بين الجانبين الاميركي والايراني قبل يومين من المفاوضات من دون أن يتضح تمامًا ما إذا كانت مباشرة أو عبر وسطاء، فيما تتزايد الضغوط الاميركية مع فرض وزارة الخزانة عقوبات جديدة شملت تصنيف 5 كيانات وشخص واحد بسبب دعم البرنامج النووي الإيراني. الى ذلك، اعتبر وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث "أن إيران هي من يقرر ما إذا كانت الخطوة الأميركية الأخيرة بنشر قاذفات بي-2 في جزيرة دييغو غارسيا بالمحيط الهندي رسالة إليها"، معربًا عن أمله في أن تفضي المفاوضات الحالية بشأن برنامج طهران النووي إلى حل سلمي.
واهتمت الصحف العربية الصادرة اليوم بما يجري على الصعيد الاقتصادي بعد قرارات ترامب الاخيرة وتداعياتها على المستوى العالمي، حيث:
قالت صحيفة "عكاظ" السعودية "سياسة "أمريكا أولًا" التي تنتهجها إدارة ترامب، نتج عنها أحداث اقتصادية ومالية تعصف بالعالم في الوقت الحالي عنوانها العريض "تعريفات جمركية"، تؤكد تراجع مصداقية منظمة التجارة العالمية باطراد على مدار العقد الماضي"، معتبرة أن المنظمة "تواجه واقعًا قاسيًا، إما التكيف أو التلاشي... فإذا لم تُتخذ إصلاحات عاجلة، فقد يشهد النظام التجاري العالمي قريبًا زوال مؤسسة كانت تُعتبر في يوم من الأيام لا غنى عنها".
وتحت عنوان "زلزال يضرب الاقتصاد العالمي"، كتبت صحيفة "البلاد" البحرينية "قرارات ترامب المعادية للعالم ليست قرارات حكيمة، فخوض حرب على جميع دول العالم بما فيها الدول الصديقة، أي الحلفاء، أمر نهايته محتومة وهي الخسارة على جميع الأصعدة"، مستنتجة أن "الأحداث العالمية من أزمات اقتصادية وحروب في الربع الأول من 2025 ما هي إلا نذير شؤم على العالم، وحان الوقت لتركيز الحكومات على أمنها الداخلي وأمنها الغذائي"، على حدّ تعبيرها.
الأمر عينه تناولته صحيفة "الراي" الكويتية، التي رأت أن "قرار ترامب صدم العالم أجمع، الأمر الذي قد يؤدي إلى تداعيات تجارية واقتصادية مكلفة"، لكنها لفتت الى أن "الرئيس لن يتراجع عن قراره الجمركي اعتقادًا منه أن اقتصاد بلاده سيخرج أكثر قوة وصلابة، حتى وإن تراجعت الأسواق العالمية أو هبطت أسهم البورصة العالمية، إلى أدنى مستوياتها".
أما صحيفة "الأهرام" المصرية، فرأت أن "السياسة الأمريكية وفرض رسوم على الواردات من عديد دول العالم ستؤدي إلى بعض من ارتفاعات الأسعار للسلع المستوردة، وقد تؤدي إلى تخفيض الضرائب على الطبقة الوسطى الأمريكية، وإلى ركود في الاقتصاد العالمي، في ظل حرب اقتصادية مع الصين"، متسائلة "هل تؤدي السياسة الجمركية الأمريكية الجديدة، وردود الأفعال من حكومات العالم التي تضررت إلى العودة إلى مفهوم الدولة القومية التي كانت تعبيرًا عن تطور حركة القوميات، والرأسمالية، ثم توسعاتها الكبرى، مع الثورة الصناعية الأولى والثانية، ثم الانتقال إلى العولمة مع الثورة الصناعية الثالثة؟".
بدورها، شددت صحيفة "القدس العربي" على ما أسمته "الاستباحة للاقتصاد العالمي، والنابعة بالتأكيد من اعتقاد ترامب أنه قادر على فعل أي شيء ما دام يملك الجيش الأقوى والاقتصاد الأغنى". وأضافت: "يشكل هذا المثال نفسه الذي تنفذ فيه حكومة نتنياهو جرائمها عبر فرض "مناطق عازلة" للقتل في غزة، وإفلات قطعان المستوطنين على فلسطينيي الضفة، والتوغلات وأشكال التدمير والقتل في سوريا، والإصرار على احتلال مناطق في لبنان، والتهديد، بشكل مباشر أو غير مباشر، للأردن ومصر وبقية البلدان العربية"، بحسب وصفها.
على المقلب الأخر، أشارت صحيفة "الخليج" الاماراتية الى أن "لا الولايات المتحدة ولا إيران تريدان الحرب، لأنهما تدركان تداعياتها الخطرة على الأمن والسلام في المنطقة والعالم"، معربة عن أملها بأن تترجم ايران عدم سعيها لانتاج أسلحة نووية من خلال المفاوضات في مسقط بين مبعوث الرئيس الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي. وخلصت الى هذه المفاوضات تشكل "فرصة لإنقاذ المنطقة والعالم من خطر داهم".