تقدير موقف

التحوّلات الأميركية التي لا نعرف!

الضجّة القائمة حول العالم تجاه رفع الرّسوم على المنتجات القادمة الى السوق الأميركية، هي ضجّة تُخفي الكثير من عوامل التغيّر الجوهري التي تعصف بالعالم، وهي عرض من مَرَضٍ إنْ صحّ التعبير، أو هي مقدّمة لها أسبابها العميقة ونتائجها أيضًا، فظاهرة "الترامبية" سوف تبقى معنا وتتمدّد، في عصرٍ يغيّرُ جلده.

التحوّلات الأميركية التي لا نعرف!

هل هي مصادفة أن يكون موعد استقلال أميركا عن بريطانيا عام 1776 هو الموعد نفسه لنشر كتاب الإسكتلندي آدم سميث (ثروة الأمم)، والذي يُعدّ حجر زاوية في فهم عسر التحوّل من الإقطاع الى العصر الصناعي، وما توجّب على ذلك من تغيّرات اجتماعية وسياسية.

في ذلك الكتاب، وهو أول عمل شامل في فهم اقتصاد السّوق، قدّم سميث مفاهيم مثل تقسيم العمل، واليد الخفيّة، والقيمة في الاستخدام والقيمة في التداول، وأهمية رأس المال والادخار والاستثمار، والأهم هو الدفاع عن حرّية التجارة، وأهمية التبادل الطوْعي الحرّ للمنتجات، وتقليص دور الدولة، ومهاجمة الإقطاع، تعميدًا لعصرٍ جديدٍ، فتمّ منذ الثلث الأخير من القرن الثامن عشر حتّى نهاية القرن العشرين، بناء سياساتٍ مبنيةٍ على تلك الأفكار التي سُطِّرَت في ذلك الكتاب الموسوعي.

رفع النّسب على ضرائب الواردات إلى أميركا هو تفصيل لظاهرة "النكوص إلى الداخل"

بعد قرنيْن من الزّمان، تغيّرت الكثير من المفاهيم، وما كان صالحًا للثورة الصناعية، الأولى والثانية، كثيرٌ منه لم يعُد يصلح واحتاج إلى آليات جديدة بعضها نراه أمام أعيننا اليوم.

بدأت تباشير التغيّر في بداية القرن العشرين، وصدور قانون أميركي عام 1924 يحرّم دخول (الملوّنين "غير البيض" واليهود الى الأرض الأميركية)، ولقصة اليهود منحنى آخر يجدر دراسته، بيتُ القصيد هنا الملوّنون، منذ ذلك الوقت هاجسُ "غير البيض" هو الذي دفع قطاعًا كبيرًا من البيض الأميركيين إلى شبه العنصرية، وبدا الخوف من التغيير اللّوني يجتاح الفكر المحافِظ، حتّى وصول باراك أوباما إلى الرئاسة الأميركية، حيث تبيّن أنّ الموضوع جدّي وليس فقط افتراضيّا.

اليوم تقول الإحصاءات السكّانية الأميركية إنّ اللّون الذي سوف يطغى على سكان أميركا هو الملوّن بحلول سنواتٍ قليلةٍ (يُعتقد بدايةً من عام 2040)، كما أنّ اللون الطاغي على سكّان مدينة مثل لندن سيكون ملوّنًا أيضًا.

تتحسّس قطاعات واسعة من المجتمعات الغربية من تغيّر لون بشرة المجتمع جرّاء الهجرة من الخارج

في كتاب "كيف تموت الديموقراطية"؟ (بالإنكليزية للمؤلفَيْن ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات)، وصدر عام 2018، مع بداية ظاهرة "الترامبية"، يرى المؤلفان أنّ الديموقراطية لا تموت من خلال الانقلابات العسكرية كما في السّابق، لكنّها تموت من خلال تآكل القيم والمؤسّسات الديموقراطية على يد قادة منتخبين ديموقراطيًا. هؤلاء يقومون بتقويضها تدريجيًّا من خلال إضعاف المؤسّسات، وشيْطنة الخصوم، وتقويض القوانين، ورفض القواعد الديموقراطية، والتسامح مع العنف وتقليص الحرّيات (ألمانيا النّازية - تشيلي بينوشيه - فنزويلا تشافيز، المجر وتركيا)، حيث تفشل الأحزاب في اختيار نُخبها، وتصعد الشعوبيّة القوميّة او العِرقية او الدّينية، في أميركا الديموقراطية المُطلقة تخدم الملوّنين على المدى القريب!.

رفع النّسب غير المعقولة أو المبرّرة على ضرائب الواردات إلى أميركا، هو تفصيل لظاهرة أوسع وأهمّ، أيّ "ظاهرة النكوص إلى الداخل" ومن لا يشبهنا هو عدوّنا، و"العدو في الداخل".

وفي تصريحٍ مُعلنٍ لنائب الرئيس الأميركي جي.دي فانس، يقول إنّ "أعداء أميركا في الداخل هم أساتذة الجامعات"! كما تتّسع مطاردة كلّ من له رأي آخر في الملفات العالميّة، ومنها القضايا السّاخنة في الشرق الأوسط، كمثل التعاطف مع القضية الفلسطينية، وكلّ من يفعل ذلك من "الغُرباء" يُطرد من الأرض الأميركية، بل في حال تقديم طلب زيارة يُفحص تاريخ الطالب على وسائل التواصل الاجتماعي!.

دخلنا عصر الإنتاج التقني غير المعتمِد لا على رأس المال ولا على المواد الخام

إذًا، نحن أمام ظاهرة أوسع من مجرّد رفع رسوم على منتجات، نحن أمام انعطافة تاريخية، ليس في أميركا وحدها، ولكن في العالم الغربي الصناعي، حيث تتحسّس قطاعات واسعة من تلك المجتمعات من تغيّر لون بشرة المجتمع جرّاء الهجرة من الخارج الملوّن، وظاهرة الإسلاموفوبيا جزء من هذا التوجّه. كان هذا الملوّن مطلوبًا إبّان مرحلة اقتصادية معيّنة (بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية أو الإنتاج الزراعي الأميركي في القرن التاسع عشر)، أمّا اليوم فمرحلة الثورة الصناعية انتهت بدرجاتها المختلفة، ودخلنا عصرًا آخر، غير عصر آدم سميث ولا حتى كارل ماركس، إنّه عصر جديد كليّا، عصر الإنتاج غير المعتمِد لا على رأس المال ولا على المواد الخامّ، عصر الإنتاج التقني.

بقيت ملاحظة، فعلى الرَّغم من التحاق شريحةٍ من اليهود في أميركا بعصر التعصّب، وهو نتيجة لأحداث الشرق الأوسط، واعتبار بشرتهم بيضاء أيضًا، إلّا أنّ شريحةً كبيرةً منهم تتوجّس من تلك العنصرية وترى أنّها سوف تقود بعد فترة إلى عداءٍ لهم، لذلك نجد بعض نخبهم ناقدةً وبعضها بقسْوة للأحداث الجارية من فرض الرسوم إلى تقليص الحرّيات المدنية.

العالم في القرن الحادي والعشرين يدخل منعطفًا آخر، حتّى الآن لم تتبيّن معالمه بوضوح.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن