الفكرة الأساسية التي طرحتها آرندت في أعمالها الهامّة هو أنّ الحداثة الغربيّة ألغت بالكامل السياسة بصفتها نشاطًا عمليًا إنسانيًا وعوّضتها بمنطق العمل والشغل الذي حوّل الشأن العمومي إلى مجرّد آليةٍ لتسيير المصالح الجماعية من منظور تقني إجرائي صرف.
في هذا السّياق، تميّزت آرندت بين ثلاثة مفاهيم محورية في الحياة النشطة هي: الشغل والأثر والفعل. الشغل يُحيل إلى الوظيفة الحيوية للإنسان في جهده لتحقيق حاجياته البيولوجية الأساسية التي تتطلّبها وظيفة العيش والاستمرار في الحياة، بينما الأثر هو النشاط الاصطناعي الذي يظهر في عالمَيْ التقانة والفنّ، أمّا الفعل فهو مجال الإبداع الحقيقي ويبرز أساسًا في السياسة التي هي النشاط الأسمى للبشر.
تنامي التيارات الشعبوية والقومية المحافِظة التي تحارب علنًا قيَم الذاتية الفردية الفاعلة
ما تلاحظه آرندت هو أنّ الحداثة ألغت السياسة واستبدلتها بالشغل الذي هو محور الحياة المعاصِرة، كما أدرك جيل كامل من المفكّرين الاقتصاديّين من آدم سميث إلى كارل ماركس.
وتربط آرندت بين هذا التحوّل وقلب ثنائية العام والخاصّ في المدينة، بحيث لم تعدْ السياسة تعني المشاركة المدنيّة في دلالتها الوجودية القوية كما كان لدى اليونان والرومان من بعدهم، بل انتقل معنى الحرّية من الشأن العمومي إلى الميدان الخصوصي المحدود، إلى حدٍّ أنّ الحقل السياسي أصبح مجرّد تعبير عن الحرّيات الخاصّة وإطار قانوني لتنظيمها.
المشكل القائم بالنسبة لآرندت هو أنّ هذا التصوّر للحرّية يُفضي عمليًا إلى نفي التحرّر في معناه العيني الملموس، ما دامت الحرّية هي مجرّد إرادة ذاتية لا يمكن أن تُفضي إلى تأسيس عالم مشترك، ومن ثم فإنّ مضمونَها الحقيقي هو تنازل الأفراد الطوعي عن حرّياتهم للدولة السيادية المُطلقة التي هي الشكل السياسي الوحيد المشروع.
ماذا يمكن القول بعد خمسين سنة على رحيل حنّة آرندت بخصوص ملاحظاتها النّقدية على الحداثة السياسيّة في الغرب التي تتمحور بداهةً حول المنظومة الليبيرالية؟
لا مناص من الاعتراف أنّ هذه المنظومة تعيش راهنًا أوضاعًا صعبةً مع تنامي التيارات الشعبوية والقومية المحافِظة التي تحارب علنًا قيَم الذاتية الفردية الفاعلة التي هي المضمون النظري والمعياري لفكرة الحرّية.
لا نريد أن ندخل في النقاش التأويلي حول التراث السياسي لحنّة آرندت، ما بين القراءات الليبيرالية والمحافِظة والرّاديكالية التي قدّمت لكتاباتها في الخمسين سنة الأخيرة. ما يهمّنا هو التنبيه إلى أنّها كانت سبّاقةً إلى الكشف عن الثغرة الخطيرة التي تعاني منها المنظومة الليبيرالية وهي العجز عن تقديم تصوّر إيجابي للحرّية، وتغطية هذا العجز من خلال مدوّنة الحقوق الذاتية الفردية التي هي المجال الأوحد للشرعية السياسية.
هل تكون السياسة مجرّد ممارسة حقوقية لكائن منتِج، تستوعبه معادلة النشاط التقني الاقتصادي؟
تأرجُح مُعقّد بين إعادة بناء المنظومة الليبيرالية والخروج منها بطرح نموذج "الديموقراطية غير الليبيرالية"
منذ كتابات مدرسة فرانكفورت الأولى، ظهر النقد الجذري للعقل الأداتي الوضعي، بيْد أنّ المدرسة الماركسيّة شكّلت، لنصفِ قرنٍ كاملٍ، بديلًا مقبولًا من داخل الحداثة التقنية الذاتيّة قبل أن تنهار بعد نهاية الحرب الباردة.
ما يحدث اليوم هو التأرجُح المُعقّد بين إعادة بناء المنظومة الليبيرالية على أساس إعادة الاعتبار للتقاليد الثقافية والقيمية والنزعة القومية المحافِظة، والخروج من هذه المنظومة بطرح ما سمّاه رئيس الحكومة الهنغارية فيكتور أوربان نموذج "الديموقراطية غير الليبيرالية".
في هذا الجدل الجديد، يُطِلُّ شبح حنّة آرندت في الذكرى الخمسين لرحيلها.