بصمات

الإنسان العربي في حضرة الغياب!

تكتسب الحرية معناها الوجودي من كونها النشاط الإرادي للروح الإنسانية، والملَكة الخلّاقة التي تمدّنا بالقدرة على أن نفكّر فيما نريد، ونقول ما نفكر فيه، ونفعل ما نقوله. أن نتمتّع بثمار أفعالنا ونتحمّل كلفة أخطائنا. أن نريد ونختار ونتحمّل في الوقت نفسِه مسؤولية اختياراتنا. أن ننفتح على العالم كي نضع عليه بصمتنا، وأن نقبل بحقّ الآخرين جميعًا أن يفعلوا مثلنا فيمنحوا العالم من روحهم كي يغتني بهم مثلنا، فيزداد العالم ازدهارًا بإنسانيّتنا المشتركة.

الإنسان العربي في حضرة الغياب!

غير أن تلك الأعجوبة المسمّاة بـ"الحرية" تأخّر وصولها إلى الجغرافية العربية، ومن ثم تأخّر حضور الإنسان العربي إلى مسرح التاريخ؛ ففي حضارتنا العريقة ومدنيّتنا المفترضة، من زمن النهضة الأولى في مطلع الألفيّة الهجرية الأولى إلى زمن النهضة الثانية، القابعة على محور الزمن بين نهاية الألفية الميلادية الثانية، ومطلع الألفية الثالثة... ومن عهود الإمبراطوريات العتيقة إلى زمن الجمهوريات العتيدة، من شاطئ المحيط الثائر إلى جرف الخليج الساكن وما بينهما من أنهار جارية، ظلّ العربي رهن السلطة المُفترض أن تُنظِّم حياته وتصون أمنه وترتقي بنمط عيشه. لكنّها لم تتردّد يومًا في أن تعذّبه وتمتهن كرامته، وأن تسوقه أحيانًا إلى الموت بلا ذنب ارتكبه أو جرم اقترفه.

تفعل السلطة المهيبة ذلك من دون أن يهتزّ لها جفن، فالبشر لدينا كثيرون، ومن يرحل عن الحياة أو يغترب عن الديار يُمكن تعويضه بسهولة. فلا مشكلة إذن في أن تبعث إلى السجون والمنافي بالشرفاء والعقلاء من مواطنيها وكأنّهم أعداء ومجرمون، فقط لأنّهم حلموا بطرائق في الحياة مختلفة عمّا تريده لهم، أو اعتنقوا آراءً مُخالفةً لم تستطع ضمائرهم الحيّة أن تكتمَها. رآها أرباب تلك السلطة فاضحةً للكهوف الخفيّة والأزقّة الخلفيّة التي تَراكم فيها الفساد والجهل والخرافة.

الثورات التي لا تفرض نظامها تـُجدّد دورة الاستبداد القديم

هكذا تطارد جلّ سلطاتنا العقلاء والأحرار، فيما يرتع على أرضها المُحتكرون للسلع، والمُتلاعبون بالأسعار، وسارقو الأراضي من دون خشيةٍ من عقاب أو حتى سؤال، بل تعلو أبواقهم النّاعقة كالبوم، تنطق بالفجور وتدافع عن الباطل، على الرَّغم من أنّهم أول المستحقّين لمقصلة السلطة وسندان القانون، لولا أنّهم عرفوا كيف يُحابون الجلّاد بدلًا من الاحتجاج عليه، وأن يكونوا عملاء وزبائن له بدلًا من الثورة ضدّه.

وهنا تتوالى الأسئلة المرّة، التي لا بدّ من طرحها: ما معنى الزمن العربي؟ لماذا كان الربيع العربي؟ وما الذي حصدناه منه؟ إلى أين نسير؟ وإلى متى نضلّ الطريق؟ لا إجابة يسيرة هنا، فالبادي أنّ الطريق لا يزال شاقًّا، بعد الربيع العاصف كما قبله، لأنّ الثورات التي لا تفرض نظامها الجديد غالبًا ما تجدّد دورة الاستبداد القديم، فيولد من رحمها قهر جديد فظّ وعنيف بالقياس إلى ما كان، على نحوٍ يبدو معه الإنسان العربي الطامح إلى الحرية، وكأنّه الفتى الإغريقي البائس سيزيف في بحثه المُضني عن الخلاص، عاجزًا أبديًا عن مقاربة الحرية. تنظر إليه السلطات الأبدية نظرة استرابة، وتطبّق عليه بنود عقدها الاجتماعي الشاذّ، المُضفّر من خيوط القهر السلطاني والجباية المملوكية، فكلّ مواطن هو قنَّ، عبد أرض يملك سيده جهده وعرقه في أحسن الأحوال إنْ لم يكن عبد رقبة، يملك سيده حقّ حياته في أسوأها.

الدول التي لا تحترم إنسانها لا بدّ أن تخشى من الجميع حولها

يفسّر هذا الحال تخاذلنا في نصرة غزّة، عكس جلّ الدول الأوروبية واللاتينية، وبعض الدول الآسيوية، التي تضامنت مع أهلها ضدّ حرب التجويع وجرائم الإبادة الجارية. فثمّة مقاطعات تجارية لإسرائيل، وأخرى فنية، وثالثة رياضية، ورابعة أكاديمية. وثمّة أيضًا إغلاق للمجال الجوي معها أو قطع لإمدادات السلاح الهجومي عنها. وثمّة كذلك مطاردة مواطنيها من السياح والجنود في كلّ مكان. وحتى في أكثر الدول تأييدًا لها كأميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، رفعت المجتمعات بطاقاتٍ حمراء، فنظّم بعض المواطنين مظاهرات، وحاصر بعضٌ محطات القطار، واقتحم البعض الثالث مجالس التشريع، ولاحق البعض الرابع أعضاء البرلمانات المؤيّدين لإسرائيل، بل إنّ بعضًا من تلك الجهود بذله يهود غير صهاينة. وفي المقابل، لم تتّخذ الحكومات العربية قرارًا واحدًا عقابيًا، ولم يحرّك الشارع العربي ساكنًا، وحتى القليلين الذين رفعوا أصواتهم جرى اعتقالهم، ليفرض الخوف نفسه على الجميع، ويصبح أصحاب القضية أبرز الغائبين.

لقد فقدت الأمة ثقتها بنفسها، صارت مستباحةً يسهل ابتزازها، لأنّ الدول التي لا تحترم إنسانها وتضمن ولاءه لها، لا بدّ أن تخشى من الجميع حولها، فيا أيّها الجلاد أما آن الأوان لتتعلّم درس التاريخ؟ ألا تعرف أنّ العُقلاء والأحرار هم فقط من يبنون أوطانًا عفيّةً، تسمو معهم، وترتقي برقيّهم، وأنّ الأغبياء والخانعون، ممّن لا يُجيدون سوى الانحناء، هم الذين يضعون أوطانهم على حافّة المنحدر، ليذهب بها إلى حتفها؟.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن