وجهات نظر

ترامب ضد ترامب!

في ذروةٍ جديدةٍ من ذرى السياسات الفاشية الهوْجاء والطائشة في الداخل والخارج، أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخّرًا حربًا تجاريةً شعواء على العالم كلّه تقريبًا، بمن فيهم أقرب وأخلص حلفاء واشنطن التاريخيّين، عندما فرض رسومًا جمركيةً (متفاوتة الارتفاع والقوّة) على السّلع التي تستوردها الولايات المتحدة من سائر دول الدنيا ولا سيما السلع الآتية من الصّين التي صارت حاليًا "مصنع العالم"، لكنّ ترامب ذهب بعيدًا جدًّا في حربه الجمركية عليها، إذ ما إنْ ردّت بكين على هذه الرسوم الأميركية الجديدة بمثلها حتّى قفز ترامب بنسبة رسومه المفروضة على سلعها إلى مستوى قياسيّ بلغ 125 في المائة!.

ترامب ضد ترامب!

ترامب ومن خلفِهِ فرقته الفاشيّة وآلته الديماغوجية، وَصفوا جميعًا يوم إعلانه قرار "العدوان الجمركي" على الكوكب بأنّه "يوم تحرير أميركا"، وقالوا إنّ من شأن هذا القرار أن يعيد للولايات المتحدة "عظمتها" الغابرة.

عاصفة ردود الفعل المستنكِرة والمصدومة من القرار الترامبي لم تقتصر على السياسيّين والاقتصاديّين في أربعة أركان العالم، وإنّما شملت حتّى الآن قطاعًا كبيرًا من الأميركيين أنفسِهم من بينهم شريحة تتّسع كل يوم، قوامها جحافل البُسطاء والفُقراء، والأقل إدراكًا وتعليمًا، وهؤلاء هُم من أوصلوه بأصواتهم العمياء إلى سدّة الرئاسة للمرة الثانية.

عالِم الاقتصاد الأميركي الحاصل على "نوبل" بول كروغمان وصف "الهجمة الترامبية" بأنّها "استعراض غبي لقوة الهيْمنة"

علماء اقتصاد أميركيون بارزون، منهم اثنان من الحاصلين على جائزة "نوبل"، هاجموا بعنف قرار الرّسوم الترامبية الجمركية، وبيّنوا ما فيه من عدوانية مجانيّة لن تحصد أميركا منه سوى المزيد من المتاعب والعثرات الاقتصادية، بما في ذلك وقوع البلاد تحت وطأة "ركود تضخّمي" موجع سيُشعل الأسعار في الأسواق بمعدّلات مؤذيةٍ لعموم المواطنين، بينما تتعثّر الكثير من الصّروح الإنتاجيّة الأميركية الضخمة خصوصًا أنّ معظمها نقل عددًا كبيرًا من مصانعه إلى الصين أساسًا، وبعض بلدان العالم الأخرى، كما أنّ غالبية تلك المصانع تستورد الكثير من مكوّنات إنتاجها من الخارج.

وفي هذا السّياق، وَصَفَ عالِم الاقتصاد الأميركي الحاصل على جائزة "نوبل" بول كروغمان "الهجمة الجمركية الترامبية" على دول العالم بأنّها "لا تحمل أيّ أهداف ولن تُحقّق أي فوائد اقتصادية حقيقيّة لأميركا، لكنّها مجرّد استعراض غبي لقوة الهيْمنة فقط، وقد صُمِّمَت لإحداث صدمةٍ وذهولٍ عند الآخرين فحسب". وختم كروغمان تعليقه متسائِلًا: "كيف يمكن الوثوق بإدارة تفكّر وتتصرّف على هذا النحو؟!".

الكثير من الاقتصاديين في العالم ذكّروا ترامب وأتباعه الذين ينافسونه في الجهل، بقانونٍ صدَر في الولايات المتحدة عام 1930 عُرِفَ باسم "قانون هولي ـ سموت" أثناء الأزمة الاقتصادية التي كانت ضربت في العام السابق وبعنف، الاقتصاد الأميركي وغيره من اقتصادات بلدان الغرب الرّأسمالية.

نظام التجارة العالمي ما تأسس إلا لحماية النظام الرأسمالي وإدامة نهبه للأغلبية الساحقة من البشر

هذا القانون اضطرّت الولايات المتحدة لإلغائه قبل أن تمرَّ ثلاث سنوات على تطبيقِه، بسبب النتائج الاقتصادية الكارثيّة التي خلّفها، إذ كان يقضي بفرض رسومٍ جمركيةٍ عاليةٍ على آلاف السلع المُستوردة، وكانت النتيجة أنّ الأسعار زادت بمعدّلاتٍ كبيرة، وارتفع التضخّم، وتضرّرت بشدة نحو 65% من المشروعات الصناعية الأميركية.

لكنّ جهلاء "الجوقة الترامبية" كان ردّهم الوحيد على مَن ذكّروهم بما أحدثه قانون هولي أنّ "الزّمن والدنيا تغيّرا" الآن كثيرًا، وهو أمر صحيح تمامًا، لكنّهم تجاهلوا حقيقة أنّ "تغيير الدنيا" الكبير هذا بات يفرض على واشنطن أن تكون أشدّ حرصًا وحذرًا، فهي كانت، مثلًا، حتّى مطلع ستينيّات القرن المنصرم تساهم بأكثر من 40% من النّاتج الإجمالي للكوكب لكنّها الآن هبطت بهذه النسبة إلى أكثر قليلًا من 20% فقط.

كما أنّ الميزان التجاري الصيني ـ الأميركي يميل بشدّةٍ حاليًا لصالح الصّين، تلك التي كانت أيام قانون "هولي" عملاقًا حبيسًا ينخر في بدنِه التخلّف والفقر والمرض، لكنّها الآن تُصدّر لأميركا سلعًا صناعيةً بلغت قيمتها العام الماضي أكثر من 463 مليار دولار، وسجّل العجز التجاري بين البلديْن في العام نفسِه ما يتعدّى الـ295 مليارًا لصالح بكين!.

العصبة الفاشية تندفع حاليًا بتهوّر نحو بداية طريق نهاية الإمبراطورية الأميركية المتوحّشة

تلك هي التغيّرات الهائلة التي يتجاهلها الترامبيون بسبب تعصّبهم الفاشي وقلّة تعليمهم الذي يميّزهم عن أسلافهم المحافِظين من اليمين التقليدي (الجمهوري)، فهؤلاء الأخيرون ظلّوا، مع أقرانهم في الحزب الديموقراطي، يُبجّلون صنم الرّأسمالية المقدّس المتمثّل في مبدأ "حرّية التجارة" ومكافحة أي نزعة حمائيّة خصوصًا عند بلدان العالم النّامي على أساس أنّ هذه البلدان إذا اعتمدت الحماية الجمركية لسلعها ومنتجاتها، فإنّ ذلك سيحدّ من قدرة دول المركز الإمبريالي على المضي قُدُمًا في امتصاص دماء الشعوب ونهب ثرواتها.

غير أنّ قطيع الفاشيين الجهلة يستعينون الآن بالحمائية التي طالما كافحَها أسلافهم بعنف، وينتهكون بشدّة قواعد نظام التجارة العالمي الذي ما تأسس إلّا لحماية النظام الرأسمالي وإدامة نهبه للأغلبية الساحقة من البشر.

هذه العصبة الفاشية لو كان لغبائها وجهلها من فائدة، فهي أنّها تندفع حاليًا بتهوّر نحو بداية طريق نهاية الإمبراطورية الأميركية المتوحّشة... ومن حُسن الحظ أنّ تلك العصابة تستظلّ بظلّها عصابة أخرى صهيونيّة تُنافسها في الإجرام والوحشيّة والجنون، وستلقى المصيرَ عينه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن