قبل أن أشير إلى العوامل الثلاثة التي أسهمت بشكلٍ بارزٍ في التغيّرات الاجتماعية، لا بدّ من العودة سريعًا إلى العقديْن السابقيْن لبداية الحرب. إذ خَطَا لبنان خطواتٍ مشهودةً لجهة اتساع نطاق المساحات المشتركة وتقارب اللبنانيين في العادات والأذواق. وكانت المدن هي الميْدان الذي شهد اتساع هذه المساحات المشتركة، والتي لم تقتصر على الانتقال من الأرياف إلى المدن والتجاور في الأحياء والعمل، إذ إنّ اتساع نطاق التعليم في مراحله قبل الجامعية قد جعل شرائح واسعة من الناشئة تتلقّى تعليمًا وتربيةً موحّدة.
أدّت الحرب إلى انحسار فاعلية القوانين الأمر الذي ساهم في نشوء مناطق من العمران العشوائي على أراضي الغير
يُضاف إلى ذلك الوظيفة العامّة، بما في ذلك قوى الأمن والجيش، التي نقلت شرائح كبيرة من منطقة إلى أخرى، إضافة إلى الأحزاب العقائديّة التي كانت تضمّ أعضاء من طوائف مختلفة. وأسهم القطاع الخاص أيضًا في اتساع هذه المساحات المشتركة وقد يكون إنشاء كليات الجامعة اللبنانية، العلوم والحقوق والآداب وغيرها من الكليات، قد أسهم في بداية بلْورة نموذج اللبناني المُتخفّف من انتمائه الطائفي والمناطقي.
إلّا أنّ الحرب ومنذ بدايتها شهدت ظواهر ووقائع بينها ثلاثة عوامل كان لها الأثر الأكبر في التغيّرات الاجتماعية، وهي التهجير والميليشيات والتعليم.
كان التهجير أحد العوامل التي كان لها أثر كبير في تقليص المساحات المشتركة، لا بل في اقتلاع أبناء قرى ومناطق ينتمون إليها بالتساوي مع أبناء الطائفة أو الطوائف الأخرى. ولم يقتصر التهجير على طائفةٍ واحدة، إنْ كان هذا التهجير قسريًا ومنهجيًا أو كان بدافع الخوف والخشية. ويشمل التهجير نزوح أهالي الجنوب إزاء تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية التي ازدادت شراستها على امتداد سنوات الحرب.
الميليشيات الطائفية أدّت إلى تغيير ضمن الطائفة الواحدة وبدّلت من القواعد التقليدية للزعامة والوجاهة
ونتيجةً لهذه العوامل، نشأت مناطق جديدة واتّسعت خدماتها، مثل المنطقة الممتدّة من ساحل علما إلى جونية ومناطق ساحل المتن إضافة إلى الضّاحية الجنوبية. كما أدّى التهجير إلى نموّ الخدمات في بلدات صغيرة كانت على اتصال وثيق بالمدينة المجاورة. وبسبب الحرب شهدنا نزوحًا معاكسًا، أي انتقال بعض سكان المدن إلى قراهم التي كانوا قد غادروها بدوافع مختلفة أبرزها فرص العمل. وقد أدّت حركات الانتقال السكاني إلى إعادة التضامن العائلي، والمناطقي، والطائفي، هذه العوامل التي كانت مظاهر التخلّي عنها قد بدأت بالتبلّور في العقديْن السابقيْن للحرب.
لقد أدّت الحرب إلى انحسار فاعلية القوانين وخصوصًا البلدية، أو المتعلّقة بالتنظيم المُدُني، الأمر الذي ساهم في نشوء مناطق من العمران العشوائي على أراضي الغير، وهذا الأمر اتخذ أشكالًا مختلفة، ولا تُستثنى منه منطقة في لبنان. وبشكلٍ خاص المدن التي نشأت على خواصِرها ضواحي عشوائية تُمثّل مجتمعات ريفيّة تحيط بمدن طرابلس وبيروت وصيدا وغيرها.
العامل الثاني، من العوامل التي أسهمت في التغيير المجتمعي، هو هيْمنة الميليشيات المسلّحة التي تخطّى دورها المجال العسكري وخوض المعارك وتسعير الحرب الأهلية. فالميليشيات الطائفية أدّت إلى تغيير ضمن الطائفة الواحدة، وعلى امتداد الحرب بدّلت من القواعد التقليدية للزعامة والوجاهة. كما أنّها أدّت إلى انحسار واختفاء الأحزاب العقائدية، واختفاء الزعامات التقليدية وأحزابها العائلية. وعبّرت الميليشيات المسلحة التي تحوّلت إلى أحزاب عن صعود الفئات الوسطى ودون الوسطى واستحواذها على النّفوذ. ولا نغفل أثر التعليم الجامعي وما دون الجامعي الذي لعب دورًا في التغيير داخل الطائفة وتبدّل قواعد النفوذ والوجاهة. علمًا أنّ كل طائفة قد شهدت تغييرًا خاصًا بها، وبعض الطوائف عرفت تغيّرات عميقة أكثر من طوائف أخرى.
تدنّي مستوى التعليم في فروع الجامعة اللبنانية إذ خضع قبول الأساتذة غالبًا لاعتبارات طائفية وحزبية
العامل الثالث، الذي أثّر في التغيّرات الاجتماعية، هو التعليم، وخصوصًا تفريغ الجامعة اللبنانية عام 1977، لأسبابٍ منها: صعوبة أو استحالة انتقال الطلاب بسبب خطوط التماس التي فصلت بين شرق بيروت وغربها. وقد وُزّعت الفروع بين بيروت الغربية والشرقية، وأنشئت فروع في المحافظات بحيث بلغ مجموعها اليوم 76 فرعًا وشعبةً على امتداد المساحة اللبنانية.
وقد يكون للتفريع بعض الإيجابيات، مثل توفير فرص التحصيل الجامعي لأولئك الذين كانوا يجدون صعوبةً ماديّةً في الانتقال إلى العاصمة. إضافةً إلى أنّ الفروع في المحافظات قد شهدت إقبالًا من الإناث حيث أصبحت كليات الآداب والعلوم الاجتماعية تشهد نسبًا عاليةً من الإناث بالمقارنة مع الذّكور. وكانت الأسباب المادية والمعنوية تمنع غالبيّة الفتيات من الانتقال إلى العاصمة من المناطق والأقضية البعيدة. لكنّ هذه الإيجابيات التي لا يمكن إنكارها لا تحجب الآثار الأخرى لتفريع التعليم الجامعي والذي أضيف إليه افتتاح فروع للجامعات الخاصّة.
ضاقت المساحات المشتركة التي تحوّل بعضها إلى مساحات طائفية ومذهبية ومناطقية
وأوّل آثار إنشاء الفروع في المحافظات اتخاذها طابعًا طائفيًا ومناطقيًا، وإنْ بشكلٍ متفاوت. كما أنّ من آثاره تلاشي المساحات المشتركة التي شكّلتها كليات الجامعة اللبنانية قبل بداية الحرب. ويُضاف إلى ذلك، تدنّي مستوى التعليم في الفروع إذ خضع قبول الأساتذة غالبًا لاعتبارات طائفية وحزبية. وتفريغ شهادات الدكتوراه وفقًا لاختبارات لا تمّت للكفاءة والعِلم بصلة. وقد ألغت الفروع الميزة الأساسية للتعليم العالي وهي الانتقال والابتعاد عن البيئة الضيّقة التي ينشأ فيها الفرد.
طبعًا وخلال الحرب، شهدنا اتّساعًا للتعليم ما قبل الجامعي، مع انخفاض مستوى التعليم الرسمي وانتشار التعليم الأهلي ذي الطابع الديني والطائفي.
أدّت الحرب إلى تعثّر بناء نموذج للفرد اللبناني الذي يشترك مع الآخرين في سلوكه وتعليمه وأذواقه وثقافته، وضاقت المساحات المشتركة التي تحوّل بعضها إلى مساحات طائفية ومذهبية ومناطقية.
(خاص "عروبة 22")