لا يفهم المُتابع العربي هذه العملية في عمقها الاجتماعي ــ الاقتصادي، فيعتقد أنّ السلام جاء نتيجة اتفاق الأطراف في رقعة الميدان. والحقيقة أنّ هذه الرقعة مجرّد امتدادٍ لميزان قوى دولي، ضغطت الإدارة الأميركية الجديدة بكلّ ثقلها لتعديلها لمصلحة استراتيجيّتها الجيوسياسية والاقتصادية، وهذه في جوهرها الاقتصادي والسياسي تُناقض استراتيجية الحاكمين السابقين للبيت الأبيض، أي "الديموقراطيين" ورأسمالهم المالي المُنتعش في السوق السوداء.
ماذا بعد قمّة "شرم الشيخ"، التي سمّاها ترامب قمّة "السلام والازدهار"؟ ماذا بعد هذه القمّة التي حضرها الطرف الأميركي، والطرف الأوروبي، والطرف العربي، والطرف التركي؟ ما الذي يُخفيه "الازدهار" الذي بَشّر به ترامب في القمّة وقبلها وبعدها؟ وإلى أيّ حَدٍّ يصمد "سلام مُوقَّع" في ظلّ وجود مُعيقات محلية؟ وهل هو كفيلٌ بإطلاق الأوراش الاقتصادية الكبرى للشرق الأوسط الجديد؟ وهل استعدّت دول الوطن العربي بما فيه الكفاية لخوض غمار هذه الأوراش والتنافس فيها؟.
يصبح الرأسمال العربي أكثر فعالية وتنافسية عندما يجد سوقًا ملائمة لتعميم نشاطه و"حركِيّته" على القطاعات الإنتاجية كافة
المُحدّد الأول والأساسي للإجابة على هذه الأسئلة هو الاقتصاد، بما هو مُحدّد للسياسة مهما أثّرت فيه، وبما هو مُحدّد لسياسة الرأسمال على وجه الخصوص، ولسياسة الإدارة الأميركية الجديدة على وجهٍ أخصّ.
لم يكن حضور قمّة "شرم الشيخ" حضورًا عشوائيًا، وإنّما مُنتقًى بعناية؛ فكلّ الاستراتيجيّات كانت هناك ممثّلة: العربية، بالدول العربية التي حضرت في مقدمتها مصر التي تلعب دورًا مهمًّا في حدود التماس العربي مع "إسرائيل"، الغربية، بأميركا والدول الأوروبية التي حضرت (فرنسا، إيطاليا... إلخ)، "الإسرائيلية" بحضور مُمثلي الكِيان، التركية، بحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. الطرف الغائب في هذه "المُعادلة الجديدة" هو الطرف الإيراني، ويبقى غيابه محلّ سؤال: هل غاب لمعيقاتٍ سياسيةٍ مؤقتةٍ، أم إنّنا بصدد شرق أوسط جديد يُغيِّب إيران، بل ويسعى إلى تغييرها من الداخل؛ وذلك في أفق تحقيق الشرق الأوسط الذي يحلم به ترامب، حيث تتعايش أربع استراتيجيّات إقليمية: عربية جديدة (مصر، السعودية، الأردن، المغرب... إلخ)، "إسرائيلية" معتدلة منحسرة التأثير اليميني المتطرّف، تركية، إيرانية إصلاحية.
وشرط تعايش واستمرار تعايش هذه الاستراتيجيّات أن تفتح سوقها في وجه الرأسمال الأميركي وحلفائه من الرأسماليّات الأوروبية، وِفق تقديرات وتوافقات ربحية محسوبة. فهل أعدّت الاستراتيجية العربية عدّتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لتدبير موقعها في التنافس الإقليمي من جهة، ثم في التنافس الدولي من جهةٍ أخرى؟ يحتاج هذا التنافس إلى رأسمالاتٍ كبرى تستثمر في القطاعات الكلاسيكية كافّة (الصناعات المعدنية والكيماوية واللوجيستية والغذائية... إلخ)، والمتقدّمة (الصناعات الإلكترونية والرقمية والذكية... إلخ).
التكامل هو شرط وحدة الاستراتيجية العربية وتماسكها
لقد تأسّست في الوطن العربي استثمارات ورأسمالات من هذا النوع، وهي تمتلك قدراتٍ نسبيةً على المنافسة إلّا أنّها ما زالت في حاجةٍ إلى تعزيز ثلاث سياسات أساسيّة:
ــ سياسة التحرير: وذلك بتحرير نسبي للرأسمال من بعض مُعيقاته الإدارية والسياسية؛ صحيح أنّ البناء وتطوير قوى الإنتاج في بداياتها يحتاج إلى تقييدٍ وضبطٍ، خاصّةً في سياقٍ تنافسيّ يخترقه الرأسمال الأجنبي، وفي سياقٍ سياسيّ لا يخلو من استهداف للأنظمة السياسية السائدة والضرورية؛ إلّا أنّ بعض التحرير يجب أن يُطلَق بتدرّجٍ وبحذرٍ من قبل هذه الأنظمة نفسها، في أفق تحريرٍ مُتوازنٍ كالذي ينهجه النموذج الصيني.
ــ سياسة التعميم: بحيث يصبح الرأسمال العربي أكثر فعاليةً ونجاعةً تنافسيةً وقدرةً على فرض قواعد الاستثمار والمنافسة على الرأسمالات الأجنبية، عندما يجد سوقًا ملائمةً لتعميم نشاطه و"حركِيّته" على القطاعات الإنتاجية كافّة. ولا تتحقّق هذه السياسة إلّا بتحقّق السياسة السابقة، كما أنّها تُقيَّد في الشرط العربي الحالي.
ــ سياسة التكامل: وهذا شرط وحدة الاستراتيجية العربية وتماسكها، ويتمّ بإطلاق أوراش الشراكات بين الرأسمالات العربية، من أجل تجاوز عيوب بعضها بتقدّم البعض الآخر. ويجب في هذا الصدد تكثيف وتعزيز عمليات التصدير والاستيراد العربية - العربية، بما في ذلك تصدير واستيراد الخبرات والتمويلات، لا البضائع والمنتوجات فحسب. ويُعيق التفاوت العربي ــ العربي هذه السياسة، لكن مُعيقاته قابلة للتجاوز في الشرط المناسب.
(خاص "عروبة 22")

