يتنافس في الانتخابات البرلمانية العراقية القادمة سبعة آلاف وسبعمائة وثمانية وستون مرشحاً، على ثلاثمئة وتسعة وعشرين مقعداً، والناخبون واحد وعشرون مليوناً. وخلافاً لما حصل في الانتخابات السَّابقة، مِن حجوم عن الانتخاب، مِن كلِّ طبقات المجتمع العراقي، وخصوصاً في الوسط السُّني، فهذه الانتخابات ستشهد زخماً كبيراً. تختلف نوايا المرشحين، وفي مقدمتها تأتي الامتيازات، ومنها الحضور المذهبيّ، ولا تخلو مِن مرشحين يسعون إلى نظام مدني في سن القوانين، وإلغاء ما فرض، أما محاربة الفساد فهي، مِن المفروض، المهمة الأولى، لمن يريده نظاماً منصفاً، وسؤال: "من أين لك هذا؟". غنّت المطربة العراقية الشهيرة عفيفة إسكندر: "من أين لك هذا؟"، تأييداً لحملة أعلنتها الحكومة العراقية، في العهد الملكيّ والجمهوري في الخمسينيات!
فهناك إجراءات اتُخذت، ووزّعت استمارات على كبار الموظفين، يحددون فيها أملاكهم قبل تَسنُّم المناصب. المبدأ شائع في كل البلدان والعصور، للمحاسبة والتحقيق والتفريق تعتمده الحكومات، أو هيئاتها الرقابية، لضبط المال العام والمحافظة عليه. والأجهزة الرقابية العراقية الآن أحوج للعمل بهذا المبدأ من أي وقت مضى، وذلك لعظمة الفساد، عبر مشاريع وهمية، وتبذير المال العام. ويُذكر أنَّ أحد نواب البرلمان العراقي طرح فكرة تحديد الأموال الخاصة، أو ما في عهدة كبار الموظفين من وزراء ومديرين عامين، في الأقل، قبل الوظيفة أو المنصب، ليكون ذلك شاهداً على ما زاد على الرواتب والمخصّصات المشروعة، ككسبهم من عقود مع شركة أو صفقة باسم المنصب والحظوة. إلا أنه أُسكت في وقتها، ولم يكرر محاولته. قد لا تستطيع دوائر الرقابة ضبط ذلك، حيث يبدل الراشي والمرتشي الأسلوب، على طريقته، الذي أقسم أن لا يتسلم رشوة بيده، فأخذ يفتح الجيب لتُرمى فيه الرشوة، كنوع من التحايل على القسَم الشرعي!
لكن إشاعة هذا المبدأ وإعلانه عبر أجهزة الإعلام يشجّع المجتمعَ على الإسهام في الرقابة والمحاسبة. كما يُثير لدى الموظفين الهاجس الأخلاقي، والتَّذكير بحجم الجريمة وأثرها، خارج نطاق الدائرة، على المجتمع ككل، إضافة إلى الشعور بالمتابعة والرقابة الأشمل. هناك قصص موثّقة أشارت إلى أمانة وحرص كبار موظفي الدولة أيام زمان، سواء من الذين نتفق مع نهجهم السياسي أو نختلف، لكن الأمانة هي الأمانة. يُذكر أنَّ وزير داخلية في العهد الملكي طالبه معهد الأشعة بنصف دينار(دولار ونصف)، مقابل تصوير شعاعي، ويكتب مسدداً ومعتذراً. بل إنَّ الملك نفسه تقدم بطلب للبرلمان بزيادة مخصصات ديوانه، ولم يتحقق له ذلك.
أما رؤساء الوزراء من الملكيين والجمهوريين، قبل إلغاء منصب رئاسة الوزراء، فلا تجد شائبة مالية على أحد، ظهر ذلك من التحقيقات، التي حاول الخصوم لصقها بهم، وكان الحال مشهوراً عن مسؤولين عراقيين، مِن العهدين الجمهوري والملكي، ليس في حساباتهم غير ما يدخلها مِن معاشاتهم أو رواتبهم. عموماً، "من أين لك هذا؟" مبدأ أو شعار تاريخي، استخدمه، بالاسم أو نحوه، خلفاء مسلمون، وحكام معاصرون، إلا أن وضع العراق الرَّاهن هو الأكثر حاجة لتحقيقه، لما فيه من عنوان ثورة لحفظ المال العام، فكما ترون غداً العراقي مغترباً عن ثروات أرضه، يطفو كوخه فوق بحيرة من النِّفط، وهو لا يؤمِّن قوتَ يومه!
بينما العابثون في البحيرة، على حد قول أبي دلف، يتصرفون بمنطق: "وإني امرؤٌ كُسروي الفِعال/ أُصيف الجبال وأشتو العِراقا"! أقول: وليُشرع بإعلان شعار "من أين لك هذا؟" عبر صوت عفيفة إسكندر، الذي مازال في ذاكرة الإذاعة العراقية وذاكرة الناس: "مِنْ أين لك هذا؟ هذا من فضل ربي.. مِنْ أين لك هذا؟ هذا مجهودي وتعبي.. ما تُكلي (ما تقول لي) من أين لك هذا؟."! لعل الفائزين في انتخابات 11/11/ 2025 يطلبون سماع هذه الأغنية وبثّها مِن جديد، للتذكير بعهود النَّزاهة.
(الاتحاد الإماراتية)