لا يُعرف الرئيس الصيني شي جين بينغ بكثرة الزيارات إلى دول العالم، ولا يغادر بكين إلا ضمن خطة مدروسة وأهداف حيوية. وتأتي جولته الحالية إلى فيتنام وماليزيا وكمبوديا، في ظل أوضاع متقلبة، حيث تتصاعد التوترات الاقتصادية والأمنية والسياسية بعد حرب تجارية عالمية أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
من المفارقات، أن النتائج الأولية لهذه الحرب، بدأت ترسخ الصين قوة عالمية عظمى، على الصعد كافة، وسبقت الولايات المتحدة إلى ساحة الصراع على المسرح الدولي في مسعى منها إلى استغلال التحولات في التحالفات الاقتصادية العالمية، وبناء تحالف قوي من الشركاء الذين تعرضوا للأذى من الإجراءات الأمريكية، ولذلك فإن جولة شي في الدول الثلاث الآسيوية المجاورة لبلاده تكتسب أهمية كبيرة لمنطقة جنوب شرقي آسيا، التي تقف دولها في مفترق طرق، بين الانحياز إلى بكين في مواجهة واشنطن، أو محاولة اصطناع الحياد والبحث عن موقع يحقق التوازن الدقيق بين القوتين العظميين، وسط قلق من أن هذه المعركة التجارية تهدد بقلب الأوضاع السياسية والأمنية، وخلط الملفات والأولويات، وربما تؤدي إلى مشهد جديد يصبح فيه خصوم الأمس حلفاء، والحلفاء خصوماً.
الإدارات الأمريكية السابقة افتعلت كثيراً من التوتر في جنوب شرقي آسيا واستثمرت فيه اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. ورغم أن واشنطن مازالت تعمل على تعميق شراكاتها الأمنية مع تلك الدول في مواجهة الصين، إلا أن الحرب التجارية الجارية بدأت تغير في القناعات، فهذه فيتنام، التي وقعت 45 اتفاقية تعاون مع بكين، لديها تحفظات كثيرة وحساسيات تجاه الأزمة في بحر الصين الجنوبي، وتشاركها في هذا الموقف ماليزيا، ولكنهما أمام التطورات الدراماتيكية قررتا الانحياز إلى مصالحهما الاقتصادية أولاً، لأنها عنوان المنعة والقوة والسيادة والاستقلال.
مراجعة المواقف من الصين، لا تقتصر على الدول، التي يزورها شي، وإنما تتعداها إلى دول أخرى تقف على الطرف النقيض مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين، وكلها ضمن تحالف عسكري أمريكي وتناصب بكين العداء، التي بينها وبين بعضها، حروب وثارات تاريخية، ولكنها في هذه اللحظة، بدأت تميل إلى التروي والنظر إلى الواقع في تلك المنطقة بنظارات غير أمريكية، فالصين، باعتبارها القوة الثانية إلى الآن عالمياً، فهي الأولى في شرقي آسيا وتتفوق على كل تلك الدول، والعالم كله لم يعد يستغني عن الدور الصيني وحضورها القوي في شتى مجالات الازدهار والتنمية، وهو ما باتت القوى الأوروبية تعترف به أيضاً وتبحث عن صيغ للتعاون وضبط العلاقات على أساس المنافع المشتركة.
الحرب التجارية المندلعة بين الصين والولايات المتحدة، ليست هينة على الإطلاق، وإذا اتسعت واستعرت، فإن فصولها ستكون أشد قسوة من الحروب العسكرية، لأنها لا تقتصر على جبهة محددة بل تدور في كل دولة ومدينة وبيت، وقد تتضافر نتائجها مع التداعيات السابقة للأوضاع الجيوسياسية في أوروبا جراء الحرب الروسية الأمريكية والتوترات في شرقي آسيا.
وهكذا فإن الصورة النهائية ستكون مختلفة ومخيفة، وقد تعجل بإعادة رسم خريطة العالم، بما يسمح بولادة نظام دولي جديد، قد يكون أكثر رحمة وإنسانية، أو أشد قسوة واستغلالاً، ولكنه لن يشبه في كل الأحوال ما مضى من العالم القديم.
(الخليج الإماراتية)