فلسطين... القضية والبوصلة

الأبعاد الديموغرافية والجغرافية للحرب على غزّة!

ترتكز الإيديولوجية الصهيونية إلى تلازم ثلاثة أسُس هي الاستيطان والهجرة والترانسفير (ترحيل العرب عن أرضهم) على خلفيّة الشعار المركزي "أرض بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض". ومنذ تشكّل الحركة الصهيونية، احتلّت المسألة الديموغرافية موقعًا متميّزًا في التفكير السياسي والاستراتيجي لزعمائها. وكانت الاعتبارات الديموغرافية مهيمنةً وحاسمةً في تشكيل السياسة الصهيونية بعد إقرار إنشاء الانتداب البريطاني على فلسطين. وكانت فكرة الترحيل مشروعًا ثابتًا غير معلنٍ في برامج المجموعات الحزبية الصهيونية، الأمر الذي لم يمنع جلّ الحكومات منذ التأسيس على تجسيد ذلك بطرقٍ ونسبٍ مختلفةٍ كلّما سنحت لها الظروف.

الأبعاد الديموغرافية والجغرافية للحرب على غزّة!

منذ ثمانينيّات القرن الماضي، أخذت أحزابٌ صهيونية ترفع علنًا شعار طرد العرب وكان عنوان "مؤتمر هرتزيليا" لعام 2003: "الخطر الديموغرافي الفلسطيني على كلّ أرض فلسطين التاريخية". ومنذ ذلك التاريخ، أصبح هاجس وسلوك ومواقف القيادات السياسية من دون استثناء كيفيّة التعامل مع "الخطر الديموغرافي".

تباطؤ معدّل النموّ السكّاني بالنسبة لليهود المقيمين في إسرائيل إلى 1.1% في 2024

ومؤخّرًا، قال رئيس "الموساد" الأسبق، أفرايم هليفي، إنّ التهديد الوجودي بالنّسبة إلى دولة إسرائيل ليس التهديد النووي الإيراني، وإنّما "اليوم الذي يكون فيه عدد اليهود في البلاد أقلّ من عدد العرب بيْن النهر والبحر". يعود هذا الفزع من الديموغرافيا الفلسطينية لعدّة اعتبارات منها طبيعة المجتمع الإسرائيلي الذي لا يزال مجتمع مهاجرين من اليهود بالأساس، وهو بذلك يختلف عن مكوّنات الظاهرات الاستعمارية الإحلالية والاستيطانية القديمة، في الوقت الذي يرفض فيه قبول من غير اليهود تحقيقًا للمشروع الصهيوني المتمثّل في إقامة دولةٍ يهوديةٍ، على الرَّغم من وجود أقلّيةٍ عربيةٍ فلسطينيةٍ تُمثّل نحو 21% من سكان إسرائيل، الأمر الذي تعتبره إسرائيل تهديدًا وجوديًّا وخطرًا محدقًا بالدولة، لذلك لا تتردّد في ممارسة شتّى التضييقات على تلك الأقلّية والضّغط على أفرادها لدفعهم للرّحيل عن أرض أجدادهم، بالإضافة إلى تزايد مغادرة اليهود (الهجرة المعاكسة) لإسرائيل بخاصّة عند الأزمات والحروب التي تشنّها المؤسّسة العسكرية ضدّ المقاومة وردود فعل هذه الأخيرة من ذلك مغادرة نحو 32.8 ألف يهودي عام 2024، مقارنةً بحوالى 48 ألفًا في العام السابق في موازاة تراجُع حجم "الوافدين" الذي لم يعُد كما كانت الحال في تسعينيّات القرن الماضي عندما استقبلت إسرائيل حوالى مليون مهاجر من دول الاتحاد السوفياتي السابق.

حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ سكّان غزّة مثّلت فرصةً لتغيير الديموغرافيا الفلسطينية من خلال استهداف النساء والأطفال

ويظلّ العامل المحدّد هو تزايد عدد الفلسطينيين في الضفّة وقطاع غزّة والشتات باستمرار (حوالى 14.9 مليون فلسطيني في العالم نهاية العام 2024، نصفهم خارج فلسطين التاريخية)، مقابل تباطؤ معدّل النموّ السكّاني بالنسبة لليهود المقيمين في إسرائيل من 1.6% في 2023 إلى 1.1% في 2024، وهي المرّة الأولى التي يُسجَّل فيها هذا التباطؤ منذ 2020 خلال جائحة كوفيد 19 (كورونا)، وكذلك الخوف من ديموغرافيا دول الجوار، وخصوصًا المؤشرات الديموغرافية في مصر والأردن وسوريا، أيّ الدول التي تتمتّع بنموّ ديموغرافي سريع ومرتفع وإمكانية انعكاس ذلك على إسرائيل مستقبلًا.

لا شكّ أنّ حرب الإبادة التي شنّتها القوات الإسرائيلية ضدّ سكّان غزّة، مثّلت فرصةً، بمقاييس مختلفة، لتحقيق أحد أهدافها وهو تغيير الديموغرافيا الفلسطينية بشكلٍ مركّزٍ وواسعٍ وذلك من خلال استهداف النساء الفلسطينيات والأطفال بالأساس، نتيجة انعدام الأمن الغذائي لحوالى مليون امرأة وفتاة، وعدم وجود منتجات النظافة الأساسية. بالإضافة إلى التدمير المُمنهج لمنشآت الرعاية الصحّية الجنسية والإنجابية ما أدّى الى ارتفاع نسبة الإجهاض الى نحو 300%.

وحسب بيانات وزارة الصحّة في غزّة، تسبّبت الهجمات الإسرائيلية في استشهاد 17 ألفًا و841 طفلًا و12 ألفًا و298 سيّدة. كما تركت الإبادة الصهيونية في غزّة نحو 2000 امرأة وفتاة بعاهة مُستدامة إثر بتر أطرافهنّ، و162 سيّدة مُصابة بأمراض معدية، وفقدت 50 ألف امرأة حامل أجنّتها في ظروفٍ غير إنسانيّة.

الإيديولوجية الصهيونية مؤسَّسة على الإبادة والتطهير العرقي لإفراغ أرض فلسطين من سكّانها الأصليين

كما برزت ظاهرة جديدة منذ العدوان الإسرائيلي الجديد على غزّة، تتمثّل في عدم رغبة الأزواج في الإنجاب نتيجة الأوضاع، وخوفًا على صحّة الأمّهات والأطفال، موازاةً مع تراجع حالات الزواج الجديدة إلى مستويات متدنّية للغاية، نتيجة استهداف الجيش الإسرائيلي لفئاتٍ محدّدةٍ من السكّان كالأطفال والشباب، وبالنهاية أدّت هذه الأوضاع إلى تراجع نسبة النموّ والزيادة الطبيعية لسكّان غزّة وجزئيًا في الضفّة الغربية.

لذلك، كان استهداف النساء والأطفال والشباب الفلسطيني، ذكورًا وإناثًا، من قبل قوّات الاحتلال ممارسةً منهجيةً، تكرّرت حتّى قبل قيام الدولة الصهيونية، وهي تجسيد للإيديولوجية الصهيونية المؤسَّسة على الإبادة والتطهير العِرقي لإفراغ أرض فلسطين من سكّانها الأصليين سواء عبر الترحيل القسْري أو الموت البطيء أو بالقتل المباشر المُوجّه لفئاتٍ محدّدة من السكّان.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن