الأمن الغذائي والمائي

البحث العلمي... الطريق الإجباري إلى نهضة الزراعة العربية!

البحث العلمي هو قاطرة التنمية والسبيل الأهمّ لتقدّم الدول في المجالات كافّة، بخاصة المجال الزراعي الذي يُمثّل أهميةً بالغةً لوطننا العربي الذي يواجه العديد من بلدانه شبح الجوع، فمن خلال الدراسات العلميّة يمكن إيجاد حلولٍ جديدةٍ ومُبتكرةٍ للتحدّيات في القطاع الزراعي العربي، والتي من أبرزها محدوديّة الأراضي الصّالحة للزراعة، ندرة المياه، التغيّرات المناخية والبيئية وزيادة السكان.

البحث العلمي... الطريق الإجباري إلى نهضة الزراعة العربية!

أمام هذه التحدّيات تزداد الحاجة إلى توظيف البحث العلمي لتحقيق الأمن الغذائي العربي، خصوصًا أنّ منطقتنا لها ظروف خاصة من حيث التربة والمناخ تحتاج إلى الاهتمام بالبحوث العلميّة التي تتوافق مع تلك الظروف، كما تحتاج إلى تِكنولوجياتٍ ملائمةٍ تضمن أعلى كفاءة ممكنة لتنعكس على زيادة الانتاجية الزراعية وكذلك جودة المنتج وقابليته للتسويق محليًّا ودوليّا.

وبالفعل نجحت المراكز البحثية الزراعية في الوطن العربي في أن تصبح أهمّ الرّكائز التي تُساهم في تطوير الزراعة بالمنطقة وذلك من خلال العديد من البحوث والابتكارات التي تُناسب البيئة الزراعية العربية والتي تتميّز بالخصوصية.

هناك العديد من التحدّيات التي يجب مواجهتها للنّهوض بالقاعدة العلمية اللازمة لتطوير القطاع الزراعي العربي

تتعدّد تلك المراكز ما بين العاملة تحت مظلّة الجامعة العربية مثل "المركز العربي لدراسات المناطق الجافّة والأراضي القاحلة (أكساد)" أو الدولية مثل "المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا)"، والأخير يُعدُّ مركزًا رائدًا في البحوث الزراعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما أنّ هنالك العديد من المراكز البحثيّة القُطرية مثل "المركز الوطني للبحوث الزراعية" في الأردن و"مركز البحوث الزراعية" في مصر و"مركز أبحاث المياه" في السعودية بالإضافة إلى المراكز الأكاديمية المتخصّصة التي قامت بإجراء العديد من الدراسات العلمية المُتخصّصة المُناسِبة لطبيعة الظروف العربية ممّا ساهم في تحقيق نجاحات لا يمكن إنكارها في القطاع الزراعي.

فهناك العديد من البحوث المتخصّصة في استنباط أصنافٍ جديدةٍ من الحبوب الرئيسيّة الاستراتيجيّة مثل القمح والأرز والذرة تتحمّل الظروف البيئية القاسية مثل الجفاف والملوحة والتي اعتمدَت على علوم الهندسة الوراثيّة وأعطت إنتاجيةً عاليةً ساهمت في حلّ مشاكل النّقص في تلك المحاصيل.

وفي هذا السّياق، حقق الباحثون في "مركز البحوث الزراعية" في مصر تقدّمًا لافتًا في مجال استنباط أصناف جديدة من الحبوب، مثل القمح والأرز والذرة ذات الإنتاجية العالية مع تحمّلها للملوحة وانخفاض استهلاكها لمياه الريّ ومقاومة الآفات، ويتم زراعتها في مناطق الاستصلاح الجديدة بنجاح، حتى أصبحت مصر الأولى على مستوى العالم فى معدّل إنتاجية الأرز بمعدل 4 أطنان للفدّان، بالإضافة إلى استنباطها أصنافًا عالية الإنتاج والجودة من الخضار والفاكهة.

كما أجرت مراكز البحوث العربية دراساتٍ عديدةً في مجالات ترشيد مياه الريّ واستحداث نُظمٍ جديدة للريّ الحديث وتحلية مياه الريّ في دول مثل الإمارات والسعودية ومصر وتحلية مياه البحر وإعادة استخدام المياه العادِمة في دول مثل الأردن والمغرب، وكذلك الاستفادة من مياه الأمطار في تونس واليمن وأدت تلك الدراسات لزيادة الموارد المائية في تلك الدول بنسبة تتراوح ما بين 25% و30%.

علاوةً على ذلك، أجرت المراكز البحثيّة في المنطقة العديد من البحوث الخاصة بمعالجة الأراضي الصحراوية والقاحلة أدّت إلى استصلاح مساحات كبيرة منها الأمر الذي ساهم في زيادة الرّقعة الزراعية، مثل مركز بحوث الصحراء في مصر. ولم تقتصر البحوث العلمية العربية فقط على زيادة الإنتاجية الزراعية، بل شملت كذلك تطوير تقنيات جديدة للتصنيع الزراعي والتخزين الآمن مما أدّى إلى زيادة آفاق التسويق لتلك المنتجات.

يجب ربط البحوث العلميّة باحتياجات ومشاكل القطاع الزراعي لضمان تأثيرها الإيجابي في حلّ تلك المشاكل

وعلى الرَّغم من كلّ تلك الجهود والنتائج الإيجابية لقطاع البحث العلمي العربي، إلّا أنّ هناك العديد من التحدّيات التي يجب مواجهتها للنّهوض بالقاعدة العلمية اللازمة لتطوير القطاع الزراعي العربي.

ومن أهمّ تلك التحدّيات إعادة هيكلة المراكز البحثيّة ووضع استراتيجيات جديدة لتطوير المنظومة البحثيّة من خلال زيادة الميزانيات المخصّصة لمجمل البحث العِلمي بما فيه الزراعي في الدول العربية، حيث تشير بعض التقديرات إلى أنّ الدول العربية تخصِّصُ للبحث العلمي أقلّ من 0.5%، ؜وهي نسبة ضئيلة جدًا إذا قورنت بالمتوسط العالمي البالغ 2.2% و3% في الدول المتقدّمة وتصل إلى حوالى 4.2% في إسرائيل.

كما يجب الاهتمام ببناء كوادر علميّة متميّزة وذلك عبر تذليل العقبات وتفعيل الحوافز والبعثات الخارجية والعمل الميداني وغيرها من الأساليب، فضلًا عن ضرورة إنشاء معامل متخصّصة ومجهّزة بأحدث الأجهزة للحصول على نتائج دقيقة قابلة للتطبيق.

لتخريج كوادر علمية قادرة على إيجاد حلول تطبيقية لمشاكل القطاع الزراعي بما يتناسب مع خصوصيّات المنطقة العربية

ويجب الاهتمام بربط البحوث العلميّة باحتياجات ومشاكل القطاع الزراعي وذلك لتطبيق نتائج تلك البحوث وضمان تأثيرها الإيجابي في حلّ تلك المشاكل، ولن يتحقّق ذلك من دون الرّبط بين المزارع والباحث من خلال قطاع إرشاد فعّال يعمل على نقل المشاكل للباحث ثم توصيل الحلول للمزارع، إلّا أنّ هناك قصورًا ونقصًا شديديْن في الكوادر الخاصة بهذا القطاع أثّر سلبًا في تطبيق البحوث العلمية واستفادة المزارعين منها.

كما أنّه من الأهمية بمكان أن يكون هناك آليات فعّالة لتقييم كفاءة الأبحاث العلمية وأصالتها عبر تعزيز النشر في المجلّات الدولية العلمية المرموقة وتقييم مدى فائدتها على الأرض من خلال حلّها لمشاكل زراعية واقعية وتطبيق أدوات قياس جدوى الاستثمار بهذه البحوث، وألّا يكون هدفها الترقيات فقط.

ويجب أيضًا الاهتمام بتبادل الخبرات العلمية والبحوث بين المؤسّسات العلمية في الوطن العربي وذلك من خلال مشاريع بحثية مشتركة ومؤتمرات إقليمية ودولية وكذلك إقامة دورات تدريبية مشتركة لتخريج كوادر علمية قادرة على إيجاد حلول تطبيقية لمشاكل القطاع الزراعي بما يتناسب مع خصوصيّات المنطقة العربية.

بناء منظومة علمية عربية زراعية مشتركة مصلحة لكلّ الأطراف

وهناك أيضًا حاجة ماسّة لإنشاء مراكز علمية عربية قومية عابرة للحدود، على غرار "أكساد"، تُقدّم إنتاجها العلمي للدول العربية كافّة، وعلى سبيل المثال يحتاج العالم العربي إلى مركز قومي لأبحاث تحلية مياه البحر، بخاصة أنّ منطقتنا هي الأولى عالميًا في انتشار هذه المرافق وهناك حاجة في ظلّ الجفاف الذي تعاني منه لجعل المياه المحلّاة اقتصاديةً للزراعة أو على الأقلّ أن يصبح لها دور تكميلي للمياه المُنتَجة من مصادر تقليدية، أو حتّى أن تصبح المياه المحلّاة مصدرًا احتياطيًا في أوقات الجفاف.

إنّ البحث العلمي مُكلف، والتعاون العربي المشترك في هذا الإطار من شأنه توفير الكثير من النفقات، خصوصًا أنّ الكثير من التحدّيات البيئية والاجتماعية التي تواجه الزراعة تتشابه بين الدول العربية، وهو ما يعني أنّ بناء منظومة علمية عربية زراعية مشتركة مصلحة لكلّ الأطراف.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن