يتعلق الأمر بالحقل الفنّي، ولأنّ هذا الحقل موزّعٌ بدورِه بين عدّة مجالات، فسوف نتوقف عند أحد فروع الفنّ السابع، من خلال التوقّف عند عملٍ إبداعيٍّ واحدٍ من أعمال الرّاحل أسامة أنور عكاشة، والحديث عن مسلسل "أرابيسك" المصري الذي أُنتج وعُرِض في عام 1994، من إخراج جمال عبد الحميد وبطولة صلاح السعدني وهالة صدقي وهدى سلطان وأبو بكر عزّت وكرم مطاوع وسهير المرشدي وأسماء أخرى.
مهمٌ جدًّا استحضار السّياق الزمني الذي صدر فيه العمل، قبل التوقّف عند بعض كنوزه التي تساعدنا على قراءة تحوّلاتٍ مجتمعيّةٍ حقيقيةٍ مرّت منها مصر والوطن العربي، والقصد أنّه ابتداءً من أولى لقطات الحلقة الأولى فالأحرى ما تعدُ به العديد من مشاهد المسلسل، وعند مقارنة ما جرى في هذه المشاهد مع ما نعاينُه اليوم سواء في مصر أو في الوطن العربي، تتّضح بعض معالم تلك التحوّلات.
مستجدّات طالت مخيال الشعوب العربية بالتعامل مع القضية الفلسطينية وأدوار المحاور التركية والإسرائيلية والإيرانية
حسب أحد مشاهِد الحلقة الرابعة عشرة من المسلسل، جرت أحداث هذا الأخير في غضون سنة 1992، وما جرى بين هذا التاريخ حتّى ربيع 2025، يُفيد بأنّ مصر ومعها الوطن العربي، شهِدا مستجدّاتٍ طالت مخيال شعوب المنطقة العربية، سواءٌ في التعامل مع القضايا الوطنية أو قضايا المنطقة، ومنها القضيّة الفلسطينية أو أدوار المحاور التركية والإسرائيلية والإيرانية في الساحة، وما أكثر الأمثلة في هذا السّياق التي تُحيل مشاهد اليوم إلى تلك التحوّلات، بينما كان الأمر مختلفًا بالأمس، أي سنة 1992، مع قراءات المشاهدين حينها، ونتوقف عند نموذجٍ واحدٍ على الأقل.
المشاهد الافتتاحية للحلقة الأولى تُظهر الهجرة القسرية التي تعرّضت لها اليد العاملة المصرية، وخصوصًا العمّال والصُنّاع المَهرة، في عهد السلطان سليم الأول، بهدف المُساهمة في بناء المساجد والبوّابات والمنازل، وهي الهجرة التي كانت حاضرةً في عدّة أعمال بحثيّة وفنيّة، لعلّ أشهرها ما جاء في سلسلة تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف، ضمن أعمال أخرى.
ما يهمنا هنا أنّ مشاهد المسلسل الافتتاحية، توقّفت عند معاملة الجنود الأتراك للعمّال المصريين، وكان عنوانها معاملة السادة للعبيد إلى درجة أنّ العمال كانوا يمرّون بالضرورة عبْر ممرٍّ يتعرّضون فيه للضرب بالسّوط، كأنّنا إزّاء المشاهد اللاإنسانية التي كانت من نصيب الأفارقة السّود في عزّ التهجير القسري نحو الديار الأميركية.
الدولة الوحيدة في محور طنجة - جاكرتا التي استقبلت الرئيس الإسرائيلي استقبالًا رسميًا هي تركيا
إنّ مجرد تأمّل هذه المشاهد، تجعل المتلقّي يزداد حنقًا على الماضي العثماني في المنطقة العربية، حسب المزاج العربي حينها على الأقل، أي في سنوات بثّ المسلسل، بينما الأمر مختلف اليوم، نسبيًا أو كليًّا، ومردّ ذلك التأثير الذي تعرّض له مخيال الشعوب العربية، وبخاصّة التأثير الذي أحدثته ما اصطُلح عليه "الصّحوة الإسلامية"، والذي أفرز لنا ما يُصطلح عليه في الدول المغاربية على سبيل المثال، بـ"الجالية الأوردوغانيّة" التي تدين بالولاء الإيديولوجي للمشروع التّركي، إلى درجةٍ أنّ بعضهم وصل به الأمر إلى التعامل مع الرئيس التركي الحالي على أنّه "أمير المؤمنين"، بل وصل الأمر بأحدّ المفكرين المغاربة منذ بضعة أشهر، على هامش تكريمه من قبل الرئيس نفسِه، إلى أن وَصَفَ هذا الأخير بأنّه الحاكم الذي لا يُظلم عنده أحدًا، وليس صدفةً أنّ المفكر نفسه، ألّف كتابًا في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، شيْطن فيه مجمل الدول العربية التي انخرطت في التطبيع مع الكيان العبري، مقابل التنويه بنموذج الحكم الإسلامي التركي، كما لو أنّ هذا الأخير، غير معنيٍّ بالتطبيع نفسِه، مع أنّه يتفوق على مجمل الدول العربية في هذا المجال، بل إنّ الدولة الوحيدة في محور طنجة - جاكرتا التي استقبلت الرئيس الإسرائيلي استقبالًا رسميًا، هي تركيا بالذات، وليست مصر أو الأردن أو أيّ دولة أخرى.
ليس صدفةً أنّه منذ سنواتٍ مضت، اندلعت ضجةٌ في الساحة البحثيّة الجزائرية بخصوص التعامل مع الماضي التركي في الجزائر، بين تيّارٍ وصفه بأنّه لا يعدو أن يكون مرحلة انتداب، وتيارٍ مضادّ كان صريحًا في الحديث عن مرحلة استعمار، ولنا أن نتخيّل موقف الأقلام الإسلامية الحركيّة من الضجة نفسِها، خصوصًا أنّ الماضي التركي في مخيال الإسلاميين، ارتبط بالخلافة العثمانية التي انتهت إلى زوال في 1924، أربع سنوات قبل تأسيس أولى الحركات الإسلامية في مصر، من أجل إحياء "الخلافة الإسلامية".
يجب تغذية "مقاومة فنّية" وإصلاح ما يمكن إصلاحه في حقول تزييف الوعي الذي تعرّضت له الشعوب العربية
لا يقتصر الأمر على دور "الصّحوة الإسلامية" في مخيال شعوب المنطقة بخصوص التعامل مع الماضي الاستعماري الذي تعرّضت له العديد من الدول العربية، على الأقل في الجزئيّة الخاصّة بالماضي التركي في المنطقة العربية، ولكن يجب أن نستحضرَ أيضًا دور وتأثير "القوّة الناعمة" التركية خلال العقديْن الماضييْن، من قبيل التأثير الذي كرّسته مجموعة من الأعمال الفنية في مخيال الشعوب العربية، وبالأخصّ الأعمال الدرامية التي تناولت قضايا تاريخيةً وسياسيةً ودينيةً وغيرها، مقابل تراجع المؤشِّرات الفنية للدراما المصريّة والسوريّة وغيرها.
لو أنّ المسلسلات الدراميّة العربيّة التي تُبَثُّ خلال شهر رمضان الكريم، وعددها بالعشرات كل سنة، كانت تعيد أعمال أسامة أنور عكاشة ورموز ذلك الجيل الذهبي، لكان تأثيرها أفضل في مخيال الشعوب العربية، وأحسن بكثير ممّا يُبث خلال الشهر الفضيل، على الأقل من أجل تغذية "مقاومة فنّية"، وإصلاح ما يمكن إصلاحه في حقول تزييف الوعي الذي تعرّضت له الشعوب العربية طيلة العقود الماضية.
(خاص "عروبة 22")