تواجه إسرائيل أزمة هيكلية، وليس مجرد صراعات سياسية أو أمنية أو عسكرية، أهمها الحرب على قطاع غزة. إسرائيل تعاني انقساماً مجتمعياً لا يمكن تجاوزه، خاصة مع حالة التشرذم داخل الجيش الإسرائيلي، وهو ما لم ينجح حتى الآن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في التعامل معه رغم تغيير وزير الدفاع، ورئيس الأركان، والعديد من القادة العسكريين الكبار في التشكيلات الرئيسية، وهو ما قد يعصف باستقرار الدولة بأكملها، في ظل عدم وجود اتفاق جمعي بين القادة السياسيين والعسكريين.
لهذا اتجه جنرالات كبار وعدد من القادة السابقين في مؤسسات الدولة، وفي المستويات العسكرية والاقتصادية والسياسية، لصياغة وثيقة شاملة أعدها خبراء مركز الأمن القومي INSS، وهو مركز مهم للغاية خرجت من أروقته عشرات الأفكار التي نفذتها حكومات نتنياهو تباعاً، حيث خلص إلى أن إسرائيل تواجه أزمة حقيقية وليس مجرد أحداث أو تطورات سلبية تؤثر على أمن إسرائيل القومي.
وفي هذا السياق، تمت المطالبة بتغييرات هيكلية في الدولة، وفي السياسات التي يجب أن يتم تطويرها لتواكب كارثة الحرب التي ما تزال إسرائيل تواجهها، في إشارة لليوم التالي لهذه الحرب فيما يتعلق بالتعامل الأمني والعسكري، وفي ظل عدم وجود مقاربة سياسية حقيقة يمكن المضي في سياقها في الفترة المقبلة، والرسالة أن إسرائيل غير مستعدة لتقديم تنازلات لكي تكون دولة مقبولة في وجودها الراهن أو المحتمل، وأن على إسرائيل الاستمرار في مسار القوة حتى مع ما يجري من تطورات سلبية، حيث لا بديل حقيقياً يمكن أن يطرح نفسه أو يدفع بالعمل به، ما يؤكد أن الأمر سيمضي في سياق لا يختلف كثيراً عن ما هو قائم، حيث لا مقاربات سياسية حقيقية للخروج من الوضع الراهن.
ويبدو أن الاعتماد على القوة متواصل في ظل داخل مأزوم مع التوصل لحلول جزئية بالنسبة لمسألة غزة، إلا أن التهديد ما زال قائماً، وسيظل، ما يؤكد أن إسرائيل لن تتجه إلى زاوية مختلفة قد تمهد الأجواء للاستقرار الأمني أو السياسي أو تأمين جبهاتها الجيواستراتيجية الراهنة، الأمر الذي يتطلب العمل على مستوى محدود أو من خلال المدى القصير.
ولهذا كانت وثيقة الأمن القومي الأخيرة التي تمت صياغتها للعامين الحالي والمقبل 2026، في حين أن إسرائيل كانت تصيغ رؤيتها دائماً لسنوات ممتدة، حيث تمت صياغة استراتيجيات 2020 و2028 و2035 قبل سنوات طوال، حيث ركزت إسرائيل في هذه الخطط على المستقبل طويل الأجل بهدف الوجود في الإقليم كدولة لمدة 100 عام، وتجاوز عقدة ممالك أورشليم القديمة.
إسرائيل باتت تتعامل مع واقع أمني واستراتيجي على المدى القصير وليس على مدى طويل في ظل ما يحدث من تطورات دراماتيكية حقيقية تضع بقاء الدولة بالفعل على المحك.في هذا السياق، يمكن التأكيد أنه - ورغم محاولات تصحيح المسار - فإن المؤسسة الدينية وعناصرها من الحاخامات الكبار الذين يعملون وراء ستار كأحد أهم مراكز القوى في الداخل الإسرائيلي، يوجهون الدولة، ويحددون مساراتها.
ويبرز حكم الحاخامات الكبار الذين يوجهون الوزراء، ويدفعون إلى تبني السياسات، واستمرار المواجهات مع توجيه المستوطنين لتبني سياسات مهمة ومباشرة تحظى بقبول ديني حقيقي، وتدفع إلى التأكيد على صلابة الدولة وقرارها السياسي والأمني، إضافة إلى حماية الحكومة الراهنة وتوجهاتها العدائية في الضفة، وفي القدس، مع العمل على توجيه الوزراء لتبني مقاربات محددة في مجتمع بات يتحدث عن سردية محددة "نحن والأغيار"، في إشارة إلى ضرورة الاتجاه لتعميق فكر الدولة اليهودية النقية، ولا وجود لأي جنس آخر، بما في ذلك مواطنو الدولة من عرب 48.
الأمر الذي يؤكد أن هناك محاولات حقيقية لصون الدولة، وعدم تركها تندفع في سياسات مختلفة، بل بالعكس الانطلاق نحو سياسات حقيقية في سياق ما يجري من تحولات حقيقية في المجتمع الإسرائيلي قد تعصف باستقراره في ظل ما يجري من جدال وتجاذب حقيقي ومؤثر في بنية الدولة العبرية بأكملها، ودعوة كبار السياسيين لضرورة العمل على خيارات أخرى، واعتماد مشروع حقيقي للدولة يتجاوز فكرة المشروع الصهيوني الذي لم يعد له وجود في ظل ما يجري، ومن ثم صياغة دستور مدني للدولة، وإقرار تعديلات حقيقية وجادة في مؤسسات الدولة، واعتماد استراتيجية سياسية وليست عقائدية لم يعد لها وجود.
الأمر يتطلب سرعة تقوية مراكز الدعم في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وبناء سياسات جديدة واقعية بعيداً عن المؤشرات والأرقام للوضع الراهن اقتصادياً أو مالياً أو استثمارياً، ما يؤكد أن إسرائيل عليها أن تواجه واقعها برؤية حقيقية متماسكة لإعادة بناء الداخل، وتحديد هوية مكوناتها الاجتماعية والسياسية لمواجهة ما يجري، وهو أمر ليس سهلاً في ظل استمرار الحرب في سبعة اتجاهات كما يُسوِّق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، ويعمل عليه في خطابه السياسي والإعلامي والموجه لجمهور الداخل، والذي ما زال يرى أن إسرائيل الحالية ليست كإسرائيل التي عاش فيها منذ سنوات، وأنها تواجه مسألة البقاء في الإقليم.
(الاتحاد الإماراتية)