عملت الدراما اللاتينية طوال سنوات عرضها على الشاشات العربية، على استيراد نماذج غير مألوفة للعلاقات الاجتماعية والعاطفية، والحديث عن نماذج دخيلة على قيم المجتمع العربي المحافظ، مما ساهم في إحداث شرخ أخلاقي في بنية مجتمعات تقليدية، نشأت على "ثلاثية" نجيب محفوظ، "ليالي الحلمية"، "المال والبنون" و"هند والدكتور نعمان" وغيرها من الأعمال الدرامية الهادفة التي سلّطت الضوء على قضايا مجتمعية، مسّت صُلب اهتمامات المشاهد العربي آنذاك.
انسحبت شخوص المسلسلات اللاتينية تدريجيًا من الشاشة العربية الصغيرة، بعد أن قامت بتسليم مشعل الابتذال إلى الدراما التركية.
يجوز لنا القول إنّ تركيا قد تسلّلت من جديد، إلى مستعمراتها السابقة عبر بوابة الفن، إذ لاقت الأعمال التلفزيونية التركية نجاحًا منقطع النظير لدى الجمهور العربي الذي لمس نوعًا من المشترك التاريخي والهوياتي والديني أيضًا، في تلك السرديات الدرامية لأنها قدّمت شخوصًا تقليدانية متديّنة، في قالب أقرب إلى التغريب.
لم تخترق تركيا هذه المرّة، حصون دمشق، أو قلاع قاهرة المعز، أو سواحل وهران باستخدام الجيوش الإنكشارية والبارود الصيني، بل استعمل الأتراك أسلوبًا استعماريًا حديثًا، بقيادة جيش قوامه المئات من الوجوه الفاتنة، والأجساد الممشوقة، والعيون الزرقاء، عبر العديد من قصص العشق المبتذلة أو البروباغندا التاريخية المحرّفة.
الدراما... لفك العزلة الثقافية لتركيا
شكّلت تركيا، كما هو معلوم، ملتقى لتلاقح الحضارات والثقافات المتعدّدة عبر تاريخها الاستعماري الطويل، حيث كانت الامبراطورية العثمانية روحًا مسلمة بجذور مسيحية. وقد ترسّخت في الوجدان العربي صورة ذهنية للمستعمر العثماني المهووس بتحصيل الضرائب وسنّ القوانين المجحفة.
كما ارتبطت الثقافة التركية في مخيّلتنا الجماعية، بالحزم والفظاظة والتسلّط، وقد شكّلت ثقافة التركي المعاصر وتقاليده وعاداته لغزًا محيّرًا يحيط به الكثير من الغموض لدى الأجيال العربية الحديثة، إلى أن ظهرت أمامنا فجأة، شخوص تركية ناطقة بلهجة عربية ركيكة، شخوص تشبهنا قليلًا في المأكل والملبس وسُبل العيش المختلفة.
لقد كان التماس الأول بين المشاهد العربي والدراما التركية، بمثابة ثورة ثقافية ناعمة، ستغيّر لاحقًا وجه ومستقبل العلاقات بين تركيا والعرب، أصابت الجمهور العربي حالة من الانبهار الشديد، بقصص وحكايات وغراميات المسلسلات التركية.
عوّضت الدراما التركية الفراغ القاتل الذي شكّله غياب أعمال "التيلينوفيلا" التي لم تعد مثيرة لاهتمام جيل الألفية، حيث شكّلت البنية الثقافية والهوياتية واللغوية للدراما التركية، نوعًا من التلاعب على مستوى اللاوعي السيكولوجي للمشاهد العربي.
نحن هنا بصدد مشاهدة مزيج عجيب لشخصيات بملامح غربية، وثقافة شرقية، وأسلوب حياة يجمع بين الحداثة والتقليدانية. إنها الوصفة السحرية، التي طالما حلم بها سرًا الإنسان العربي المثقل بعبء التابوهات الدينية والجنسية.
رأى المتفرّج انعكاسًا باهتًا لصورته في أبطال وشخصيات وقصص الأتراك، فتكوّن لديه نوع من الارتباط الوجداني بثقافة تختلف عنه في الظاهر، لكنها تظلّ في جوهرها جزءًا من تاريخه وهويته. كما أحدث اجتياح الصناعة الدرامية التركية للعالم العربي، فضولًا شديدًا لدى مواطني المستعمرات العثمانية السابقة، وأيقظ رغبة جامحة في إعادة استكشاف الأرض، التي سبق وأن انطلقت منها جيوش، نكّلت بأسلافهم، بل وقدّم سلاطينها بلادهم هدية رخيصة للمستعمر الغربي. لقد ساهمت "متلازمة ستوكهولم" في نسختها العربية، بشكل لا إرادي في مساعدة الأتراك على تلميع ماضيهم، وإعادة ترميم الصورة الذهنية السلبية الراسخة في الذاكرة العربية.
البروباغندا التاريخية: تلفيق وتزييف
مهّدت دراما العلاقات العاطفية والاجتماعية المبتذلة، الطريق نحو نوع فني جديد أشدّ تأثيرًا وخطورةً، حيث عمل صنّاع الدراما التركية على ما يُشبه دسّ السم التاريخي في العسل، عبر أعمال تعجّ بمغالطات تاريخية وكرونولوجية فاضحة.
لقد قدّم هذا النوع من الأعمال سرديات مغلوطة عن الحقيقة التاريخية والاستعمارية للسلطنة العثمانية. كما عملت على نفي تهم الفساد والصراع الدموي المرير حول السلطة، عبر تنزيه أفراد الأسر الحاكمة، أصحاب الدماء العثمانية النقية عن كل سوء، مقابل شيطنة الحاشية ذات الخلفيات الدينية والعرقية الأجنبية.
تسعى تركيا في طموحها الاستعماري الحديث، إلى احياء شبح الرجل المريض، عن طريق البهرجة الدرامية التاريخية المبتذلة، في محاولات يائسة لإعادة بسط سيطرتها الاقليمية على المحيط الشرق أوسطي/ الشمال أفريقي.
ما السبيل إلى مقاومة هذا المدّ الاستعماري التركي الناعم؟ أمام تراجع تاريخي للمدّ القومي العربي؟ وأمام تصاعد أصوات مطالبة بالفصل الهوياتي والعرقي والقومي لمكوّنات شعوب الرقعة الجغرافية من محيط طنجة، إلى خليج عمان؟
أسئلة مفتوحة ومركّبة تتطلّب الكثير من المواكبة الإعلامية والبحثية.
(خاص "عروبة 22")