إن افتقار الشرق الأوسط للدبلوماسية متعددة الأطراف والتنسيق الأمني لمنع النزاعات وحلها قد خلق اعتماداً طويل الأمد في المنطقة على الجهود الدولية المؤقتة للتفاوض على ترتيبات وقف إطلاق النار والتسويات السلمية لإنهاء الحروب المستمرة بين الدول والمواجهات العسكرية بين الدول والجهات المسلحة غير الحكومية. وفي العديد من الحالات، فشلت هذه الجهود في تهيئة الظروف لتسويات سلمية دائمة.. لكي تنجح جهود صنع السلام، يجب أن تسعى إليها القوى الدولية بعزم وإصرار.
وقد نجحت بعض السياسات البريطانية والأمريكية في النصف الأول من القرن العشرين ـ مثل اتفاقيات الهدنة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني في حرب عام 1948، والتي تم الالتزام بها في الغالب حتى اندلاع حرب عام 1967. وفي النصف الثاني من القرن، نجحت بعض المبادرات التي قادتها الولايات المتحدة ـ بما في ذلك الوساطة الناجحة في مفاوضات السلام بين إسرائيل ومصر في سبعينيات القرن الماضي، وبين إسرائيل والأردن في تسعينياته، بالإضافة إلى المشاركة الأمريكية الأقل نجاحاً في عملية أوسلو بين الإسرائيليين والفلسطينيين. لكن بخلاف هذه الأمثلة القليلة، كثيراً ما تراجعت القوى الدولية عن التفاوض على اتفاقيات السلام في الشرق الأوسط، أو ازداد ترددها مع مرور الوقت في استثمار أدواتها الدبلوماسية والسياسية لتنفيذها بحسن نية.
لأكثر من قرن، كان أي تنسيق إقليمي يُحقق يتم في سياق هيمنة قوة خارجية (مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة) أو أحيانًا في سياق التنافس بين القوى العالمية (خاصةً خلال الحرب الباردة). لم تُسهم هذه الترتيبات في حل النزاعات الإقليمية، وشعر الكثيرون في الشرق الأوسط بأنها تحمي الظلم وعدم المساواة القائمين وتُفاقمهما بشدة. كما بدا أنها حالت دون ظهور ترتيبات بديلة متعددة الأطراف.
كما أن الجهود الدولية لصنع السلام في الشرق الأوسط جرت في الغالب في بيئة أبدت فيها الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية، حرفياً، عدم استعدادها للتفاوض مع بعضها البعض، أو حتى الاعتراف بوجود بعضها البعض. الوضع اليوم أكثر صعوبة. فثلاث دول مجاورة للعالم العربي، إسرائيل وإيران وتركيا، ليست مجرد دول متنافسة تنفذ سياسات تقوض الاستقرار والأمن الإقليميين، بل تسعى كل منها أيضاً إلى شكل من أشكال الهيمنة الإقليمية. اتخذ التنافس الثلاثي بين إسرائيل وإيران وتركيا أشكالاً خطيرة للغاية، وأدى إلى نوبات من الحروب المفتوحة في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط. وحتى عندما أظهرت هذه الدول ـ وحلفاؤها من غير الدول ـ بعض ضبط النفس، دفعت شعوب العديد من دول المنطقة ثمناً باهظاً.
قامت دول الشرق الأوسط غير العربية ـ إسرائيل وإيران وتركيا ـ بمحاولات سابقة لوضع ترتيبات أمنية جماعية. لكن هذه المحاولات إما باءت بالفشل، مثل حلف بغداد في خمسينيات القرن الماضي، أو تذبذبت بسبب التحولات الجذرية في السياسة الداخلية والمشاعر الشعبية ـ على سبيل المثال، أنهت الثورة الإسلامية في إيران التنسيق الأمني القائم منذ فترة طويلة بين نظام محمد رضا بهلوي وإسرائيل. أدى صعود الإسلاميين إلى السلطة السياسية في تركيا منذ أوائل القرن الحادي والعشرين، وتأكيد سيطرتهم على السياسات الخارجية والدفاعية، إلى استبدال التعاون بين تركيا وإسرائيل بالخلاف. كذلك، لطالما انخرطت إيران وتركيا في سباقٍ على مناطق النفوذ في سوريا والعراق، مما أدى في السنوات الأخيرة إلى توترات بين البلدين.
يمكن للدول العربية المؤثرة أن تشق طريقًا مختلفًا: العمل معًا بطريقة متعددة الأطراف ونشطة ومنسقة. على المدى الطويل، ستستفيد دول الشرق الأوسط من هيئة دائمة تركز على الأمن الإقليمي. ولكن في الأشهر والسنوات القليلة المقبلة، يمكن للدول العربية أن تتخذ خطوات غير مسبوقة ـ ابتكار آليات لتنحية التنافسات قصيرة المدى جانبًا من أجل إعادة الإعمار الإقليمي على المدى الطويل؛ وصياغة استراتيجية مشتركة؛ وتقديم بدائل مجدية للإسرائيليين والفلسطينيين؛ وصياغة سياسات لمنع الصراعات واحتوائها، مصممة لتحفيز تغيير سلوك السياسة الخارجية، ليس فقط لإسرائيل، بل أيضًا لإيران، وبدرجة أقل لتركيا ـ وحتى في هذه الحالة، لن تُحدث هذه الخطوات أي مفعول سحري بين عشية وضحاها.
لا يوجد في الشرق الأوسط ما يُعادل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. تقتصر ترتيبات الدفاع المشترك بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية على تلك الدول، وقد ثبت عدم فعاليتها إلى حد كبير في منع الصراعات أو احتواء الحروب الإقليمية، حتى بين الدول العربية: الغزو العراقي للكويت مثالٌ قديم على ذلك؛ ومن الأمثلة الأحدث النزاع الحدودي المستمر بين لبنان وسوريا.
ولكي ينجح هذا الجهد، يجب أن يُواصل، على الأرجح بطريقة رسمية. يمكن لائتلاف على غرار إعلان دمشق يهدف إلى تعزيز المصالح الأمنية طويلة الأجل للعرب وجيرانهم في الشرق الأوسط بطريقة يمكنها التفاعل مع القوى الدولية (دون الاعتماد عليها) أن يكون فعالا. هذا الاقتراح ليس بديلاً عن إطار لحوار أمني إقليمي. لكن نهجًا عربيًا منسقًا قد يسمح بظهور مثل هذا الإطار من خلال مبادرة إقليمية بدلامن أن تدفعه جهات خارجية لديها مشاكل قصيرة الأجل ترغب في إدارتها أو خصم أو حليف محدد تهتم به.
يمكن للجهات الفاعلة الإقليمية، مثل مصر وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أن تلعب دورًا بناءً في إقناع حماس بالعودة إلى طاولة المفاوضات وقبول أنها لن تكون جزءًا من حكومة غزة في المستقبل والابتعاد عن الردود العسكرية على الضربات الإسرائيلية. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة وحدها هي التي يمكنها دفع إسرائيل إلى وقف التصعيد الحالي والتفاوض على تمديد ترتيبات وقف إطلاق النار مع حماس.
أما بالنسبة للحوثيين، فبينما يمكن لحملة عسكرية أمريكية مستمرة ضدهم أن تحيّد في النهاية التهديد الذي يشكلونه على الأمن في البحر الأحمر وعلى إسرائيل، فإن إيران هي التي يمكنها إقناعهم بتغيير سلوكهم. من هنا أهمية جولات التفاوض الدائرة اليوم بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإيرانية. في الشرق الأوسط اليوم، يقف العرب كالوسطاء الحقيقيين في الصراعات وصانعي سلام فاعلين وعليهم من ثم أن يستغلوا ذلك دفاعا عن مصالحهم الفردية والجماعية وسعيا إلى استقرار منطقة طالت حروبها وصراعاتها.
(القدس العربي)