خلال سبعة وسبعين عاماً، هي عمر القضية الفلسطينية، قامت هيئات الأمم المتحدة الرئيسية، مجلس الأمن والجمعية العامة، بإصدار عشرات من القرارات المتعلقة بها والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتطوراتها المختلفة المتعاقبة خلال هذه العقود الطويلة. ولقد كان القرار رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 هو المؤسس لدولة إسرائيل التي أعلنت بعدها في 15 مايو 1948، إلا أن هذا القرار تضمن ما لم يحدث طوال تلك السنوات، وهو بنصه أن "تنشأ في فلسطين الدولتان المستقلتان العربية واليهودية".
والحكم الدولي الخاص بمدينة القدس المبين في الجزء الثالث من هذه الخطة، فقد غابت حتى اليوم الدولة العربية الفلسطينية. فيما توسعت الدولة اليهودية الإسرائيلية لتستولي على أكثر من 78% من أراضي فلسطين التاريخية حتى حرب عام 1967، ولتحتل بعدها الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس كاملة، وليزداد غياب الدولة الفلسطينية المستقلة، حتى ظن البعض أنها اختفت للأبد.
منذ هذا القرار المؤسس، أشار عديد من قرارات الجمعية العامة إلى هذه الدولة "الغائبة"، إلا أن السلطة الأعلى في الأمم المتحدة والنظام الدولي، أي مجلس الأمن، لم يشر إليها من بين عشرات القرارات التي أصدرها بخصوص القضية الفلسطينية، سوى مرتين فقط. كانت المرة الأولى في القرار رقم 1397 الصادر في 12 مارس عام 2002، حيث نص على أن المجلس "يؤكد رؤية تتوخى منطقة تعيش فيها دولتان، إسرائيل وفلسطين، جنباً إلى جنب ضمن حدود آمنة ومعترف بها".
وقد انعقدت بعد هذا القرار قمة بيروت العربية التي تبنت خطة السلام السعودية التي تغير اسمها لمبادرة السلام العربية، وليصبح مطلب إقامة الدولة الفلسطينية هو أساس أي سلام عربي شامل مع إسرائيل. وكان القرار الثاني لمجلس الأمن هو القرار رقم 1515 الذي صدر في 19 نوفمبر 2003، وأكد في ثلاثة من فقراته "من جديد على رؤيته التي تتوخى منطقة تعيش فيها دولتان، إسرائيل وفلسطين، جنباً إلى جنب ضمن حدود آمنة ومعترف بها".
وقد أعرب المجلس عن تأييده لخريطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية، بما يؤدي إلى حل دائم للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني يقوم على أساس وجود دولتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام وأمن، وهي اللجنة التي ضمت حينها كلاً من الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، بهدف تسهيل عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هذا هو تاريخ مجلس الأمن الدولي مع مطلب "الدولة الفلسطينية المستقلة": تم ذكرها مرتين فقط في قراراته منذ نحو ربع قرن، وهو ما يجب فهمه في ظل الإصرار الأمريكي المتتابع على الوقوف بالفيتو أمام أي مشروع قدم له، بخلاف القرارين المشار إليهما.
من هنا يمكن النظر من إحدى الزوايا التي نرى أهميتها الفائقة للقرار الذي اعتمده مجلس الأمن مساء الاثنين بخصوص إيقاف الحرب في غزة وبقية البنود التي وردت في خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهي ما يتعلق بهذه "الدولة الفلسطينية". فقد جاء في القرار أنه "بعد تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية بأمانة وإحراز تقدم في عملية إعادة التنمية في غزة، قد تتوافر الظروف أخيراً لتهيئة مسار موثوق يتيح للفلسطينيين تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية"، وأن "الولايات المتحدة ستعمل على إقامة حوار بين إسرائيل والفلسطينيين للاتفاق على آفاق العمل السياسي بغية التعايش في سلام وازدهار".
يأتي جزء كبير من الأهمية المشار إليها من أن مقدم القرار هو الولايات المتحدة، الحليف الدائم والتاريخي لإسرائيل والداعم المستمر لها في حربها الدموية على قطاع غزة طوال عامين. ومن أن نصاً شبيهاً بهذا قد ورد في خطة الرئيس ترامب، وتم إجبار رئيس الوزراء الإسرائيلي أمريكياً على التوقيع بقبوله. الرئيس الأمريكي الأكثر يمينية في الإدارة الأمريكية خلال عقود، والحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة اليهودية، معاً يوافقان ويقران بإقامة "دولة فلسطينية".
وهو ما يخالف تاريخ اليمين الأمريكي، وخصوصاً المنتمي للحزب الجمهوري، ويناقض جذرياً قناعات وتصرفات كل اليمين والوسط الإسرائيليين، ومعهما أغلبية ساحقة من النخبة السياسية والمجتمع الإسرائيليين. وقد لا يرى البعض تلك الأهمية فيما جاء بنص القرار بخصوص "الدولة الفلسطينية" إلا هذا الرأي، فلا ينتبه إلى من طرح القرار والخطة ومن وافق عليهما، وطبيعة التغير الرئيسي في مواقفهما. كما لا ينتبه إلى التغيرات الدولية الهائلة التي جرت خلال العامين السابقين تجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية والتي عبر عنها "إعلان نيويورك" وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إن الطريق لهذه الدولة الفلسطينية لن يكون قصيراً ولن تتم في خطوة واحدة، ولكن تلك الإشارة المهمة لها في قرار مجلس الأمن، تفتح طريقاً جديداً وجدياً نحو إقامتها، بشرط توافر ظروف أخرى، ربما يكون الحديث عنها وعن بقية نصوص القرار في سطور أخرى قادمة في هذه المساحة.
(البيان الإماراتية)

