كما هو معروف، تعني الذاتية في منبعيها الأساسيين (الوعي والمواطنة القانونية) أولوية الإرادة الفردية الحرّة على المجموعة الكلية، وأولوية المعايير الإجرائية الكونية على التصورات الجوهرية للخير العمومي.
بالمعنى الأول تكون الذاتية وفق التحديد الديكارتي "أنا مفكّرة" تتحكّم كليًا في وعيها في علاقة شفافة ومفتوحة مع العالم، وبالمعنى الثاني الذي صاغه هوبز ولوك تكون الذاتية كيانًا قانونيًا متفردًا يختار بكلّ حرّية الأسس والمعايير التي يتشكل منها المجتمع بحسب شروط التعددية الفكرية والعقدية القائمة.
الذاتية الفردية المستقلة كليًا عن المجال الأخلاقي المشترك هي وهم قانوني صرف
بيد أنّ براديغم الذاتية عانى منذ عصور التنوير الأوروبي من تصدّع داخلي عبّر عنه الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور بصدام الاستقلالية والأصالة. الاستقلالية تحيل إلى الفردية الحرّة وما يترتّب عليها من حقوق قانونية هي أساس النظام الليبرالي الحديث، والأصالة تطرح إشكال الهوية الجماعية بما بها من حقوق ومطالب اعتراف في مجتمع متنوّع ثقافيًا وقيميًا.
ما انتبه إليه جان جاك روسو مبكرًا هو أنّ ذاتية الاستقلالية لا يمكن أن تلغي الأصالة التي هي شكل مختلف من الذاتية يتشكّل وفق المسارات التاريخية والقيمية ويربط عناصر مجموعات متناسقة في ما بينها، إذ ليست الذاتية الفردية المستقلة كليًا عن المجال الأخلاقي المشترك سوى وهم قانوني صرف وإن كانت مصادرة ضرورية في المجتمعات الليبرالية الحديثة.
لقد غاب التفكير الفلسفي في الأصالة كليًا في الفكر القومي العربي، في معالجته لسؤال الهوية خارج الإشكالية المحورية للحداثة التي هي سؤال الذاتية.
وعلى الرغم من بعض الأفكار الهامة التي وردت في أدبيات المثالية الألمانية في تصورها لروح الشعب ونقدها للنموذج التعاقدي القانوني، وعلى الرغم من الأفكار الثرية حول الأصالة لدى هوسرل وهايدغر، لم يستفد الفكر القومي العربي من هذه الإضافات النوعية.
ومن أخطر نتائج هذا الانفصام بين سؤال الهوية وسؤال الأصالة، العلاقة الملتبسة بالمثل الليبرالية في الحقوق الفردية والتنظيم الديمقراطي الحر، التي ألغيت إجمالًا من منظور أولوية الهوية الجماعية ومطالبها في الوحدة والاستقلالية الحضارية.
لا يمكن تحرير الأمّة والنهوض بها دون تحرير الإرادة الفردية المستقلة
ما بيّنته التجربة الأوروبية، هو أنّ ذاتية الأصالة بما يترتّب عليها من هوية قومية وحقوق جمعية، تصدر عن المنبع ذاته الذي تصدر عنه ذاتية الوعي والاستقلالية، بما يعني الترابط العضوي بين حقوق المواطنة المدنية وحقوق المواطنة الثقافية.
عندما نرجع إلى الكتابات الرئيسية في الفكر القومي العربي نجد أنها تتأرجح بين مسلكين: المقاربة الثقافية التاريخية المنبتة عن السؤال الاجتماعي الراهن أي موضوع الحقوق المدنية ونظام التدبير السياسي للجماعة، والمقاربة التسلّطية الأحادية التي صيغت في السابق على مقاييس الأنظمة الكليانية الاشتراكية.
لقد بذلت في السنوات الأخيرة محاولات واسعة لدمقرطة الفكرة القومية، إلا أنّ هذا الجهد لم يتجاوز استيعاب آليات المشاركة والانتخاب في مسار تشكّل الإرادة العمومية والتعبير عنها، وبالتالي لم يواكبه جهد نظري رصين في التفكير في الهوية الجماعية العربية ضمن مقاييس الذاتية في بُعديها الاستقلالي والأصيل.
وباختصار شديد، لا يمكن تحرير الأمّة والنهوض بها دون تحرير الإرادة الفردية المستقلة، أو بعبارة أخرى لا يمكن الفصل بين المواطنة الجماعية والمواطنة الفردية.
(خاص "عروبة 22")