تحتاج مصر لمعالجة هذه المعضلة بمقاربة أكثر فعّالية وواقعيّة، فمسألة إزالة الدعم عن أسعار الطاقة تحتاج إلى أن تُفهم في سياقٍ أوسع، إذ إنّ إزالة دعم الطاقة ليس مطلبًا لصندوق النقد الدولي فقط، ولكنّها مسألة يكاد يكون متفقًا عليها من أغلب الاقتصاديين في العالم بما يشمل أقصى اليسار واليمين، بل إنّ الحكومات التي تفرض أعلى ضرائب على الطّاقة في الغرب هي عادةً الحكومات الأقرب لليسار، حيث إنّ إحدى أجندات اليسار الرئيسية في أوروبا وأميركا هي جباية ضرائب من الوقود الأحفوري سواءً لحماية البيئة وتشجيع الطاقات البديلة أو لاستخدام هذه الضرائب لتحقيق العدالة الاجتماعية.
وليس صحيحًا أنّ هذا التوجّه يقتصر على الدول الغنيّة، فهناك دول مستوى الدخل فيها مقارب لمصر حرّرت أسعار الوقود أو تضيف ضرائب عليه، فمثلًا يبلغ سعر ليتر البنزين 95 في الهند نحو 1.17 دولارًا أي حوالى 58.8 جنيهًا مصريًّا (مقابل 20 جنيهًا في مصر)، في حين أنّ الدول التي تدعم أسعار الطّاقة بشكل كبير، هي عادةً مِن أفشل الدول اقتصاديًا، وتعاني إيران الغنيّة بالغاز على سبيل المثال من أزمة كهرباء ضخمة أحد أسبابها الدعم.
دعم الوقود يضرّ الموازنة العامّة ويزيد استهلاك الطّاقة ويشجّع على الهدر وتهريب الوقود للخارج
وعكس ما هو شائع، فإنّ دعم الطّاقة هو انحيازٌ للأغنياء لأنّ معدل استهلاك المواطن الغني للطاقة أعلى بكثير من الفقير، فنصيب أسرة ثرية لديها ثلاث سيارات من دعم البنزين أعلى بكثير من نصيب أسرة لديها سيارة واحدة، الذي بدوره أعلى من نصيب أسرة تستخدم المواصلات العامّة، الذي يفوق نصيب أسرة يعمل أفرادها كأجَراء زراعيّين ونادرًا ما يغادرون قريتهم.
كما أنّ دعم الوقود لا يضرّ الموازنة العامّة فقط، بل يؤدّي عادةً لقفزة كبيرةٍ وغير طبيعيةٍ بمعدّل زيادة استهلاك الطّاقة ويشجّع على الهدر بما يؤدّي لزيادة التمويل اللازم للدعم بشكلٍ يصعب على أيّ دولة تحمّله كما يشجّع على تهريب الوقود للخارج.
على الرَّغم من كل ذلك، فإنّه لا يجوز الاكتفاء بتقليص الدعم على الطاقة، بل يجب أن يصاحب ذلك سياسات أخرى لتقليل أثر زيادة الأسعار على المواطنين وتقليل استهلاك الطاقة بما يخفّض الأعباء على الاقتصاد.
أولى هذه الخطوات توجيه دعمٍ نقديّ للطبقتين الوسطى والفقيرة، كما أنّ هناك حاجةً لزيادة الرواتب، ولكن قد يكون تأجيل الحكومة المصرية لزيادة الرواتب إلى يوليو/تموز 2025 قرارًا صائبًا حتى لا تتزامن مع زيادة أسعار الوقود وذلك لتجنّب حدوث ضغوطٍ تضخّميةٍ إضافية.
يمكن تقديم قروض مُيَسَّرَة وإعفاءات ضريبيّة للمنتجات الأقل استهلاكًا للطاقة وتشجيع التصنيع المحلّي لها
ولكن هناك سياسات أخرى تحتاج الحكومة والمجتمع لتبنّيها لترشيد الطاقة وتقليل عبئها على كلّ الأطراف وأن يكون ذلك ضمن استراتيجيةٍ واسعةٍ هدفها الأساسي خلق بيئةٍ داعمةٍ لترشيد الطاقة للوصول لأعلى نصيب للفرد من النّاتج المحلّي ممكن توليده من كل وحدة طاقة.
إذْ يُمكن للحكومة تقديم قروضٍ مُيَسَّرَةٍ وإعفاءاتٍ ضريبيّةٍ للمنتجات الأقل استهلاكًا للطاقة وتشجيع التصنيع المحلّي لها وحثّ الإعلام والخبراء والمؤثّرين في مواقع التواصل على شرح مزايا هذه المنتجات وأساليب الترشيد للمواطن العادي.
ففي قطاع نقل البضائع والرّكاب، والذي يعتمد في مصر بالأساس على محرّكات الديزل، يمكن (كما يحدث في أوروبا) تشجيع التوجّه لمحرّكات البنزين الهجين الأقل استهلاكًا للوقود وتلويثًا للبيئة، ويمكن أن تقدّم الحكومة الدعم الفنّي والقروض الميسّرة لإحداث هذا التحوّل بالشاحنات والحافلات القديمة، كما يمكنها تشجيع مصنّعي الشاحنات والحافلات المحلّيين على تبنّي هذا التحوّل، كما أنّه في قطاع الحافلات الكبيرة تحديدًا، يمكن تشجيع التحوّل نحو الحافِلات الكهربائية عبر بناء محطّات شحنٍ ليليةٍ بأماكن مبيت هذه الحافلات.
وبالنّسبة إلى نقل الركاب الفردي (التاكسي)، فلدى مصر تجربة ناجحة في تحويل المحرّكات من استخدام البنزين للغاز الطبيعي وهي جديرة بأن تتوسّع لتشمل المحرّكات الهجينة والعاملة بالوقود الحيوي والهيدروجين ضمن مبادرات ترعاها الحكومة عبر إعفاءاتٍ ضريبيةٍ وقروضٍ ميسّرةٍ ودعم فنيّ.
بصفةٍ عامةٍ، توفّر المحرّكات الهجينة ما يتراوح بين 30 و35% بالمتوسط في استهلاك الوقود، وتصل في بعض أنواع المحرّكات الهجينة القابلة للشحن "plug in hybrid" إلى 50% فأكثر، فيما تحقّق محرّكات الغاز وفرًا أكبر بكثير في التكلفة مقارنةً بالبنزين.
ومن الأهمّية بمكان التوسّع أيضًا بالتجربة المصرية الناجحة جزئيًا فيما يمكن تسميته بـ"مواصلات الطبقة الوسطى الجماعية"، والتي تشمل حافلاتٍ جيدة وغير مزدحمة وبخاصة تلك التي يمكن استخدامها عبر تطبيقات الهواتف الذكية، لأنّها ستشجّع الطبقة الوسطى على التخلّي عن السيارات الخاصّة والتاكسي.
يمكن تشجيع المصانع على التوسّع بالتوليد الذاتي للكهرباء من الطاقة الشمسية
وبالنّسبة إلى السيارات الخاصّة، فيجب ملاحظة أنّ محرّكات معظمها في مصر بسعة 1.6 ليتر تنفس طبيعي، ولذا يجب تشجيع انتشار السيارات ذات المحرّكات الأصغر والمزوّدة بـ"التيربو"، كما أنّ التحوّل للمحرّكات الهجينة سوف يحقق وفرًا فارقًا في الاستهلاك، ويمكن أن يتمّ ذلك عبر دفع المصنّعين المحلّيين لتبنّي هذه الخيارات، خصوصًا أنّ مصر تشهد توسّعًا في صناعة تجميع السيارات، مع تقديم قروضٍ ميسّرةٍ وإعفاءاتٍ ضريبيةٍ لهذه السيارات بخاصة المصنّعة محليًا.
وفيما يتعلق بالطاقة الكهربائية، فلدى مصر تجربة ناجحة في ترشيد الطاقة المخصّصة للإنارة عبر تشجيع "مصابيح الليد" الموفِّرة للطاقة من خلال تعزيز الوعي بأهميتها والنّشر واسع النطاق لمراكز بيعها، مع تقديم ضمان (كفالة) لهذه المنتجات.
وتحتاج مصر إلى سياسةٍ مشابهةٍ للأجهزة الكهربائية ولا سيما مكيّفات الهواء التي تُمثّل نسبةً كبيرةً من استهلاك الطاقة غير الصناعية في البلاد، فالمكيّفات الموفِّرة للطاقة (إنفرتر) استهلاكها أقلّ بنحو 40% مقارنةً بالعادية، ولكنّها أغلى وأقلّ كفاءةً في التبريد، ولذا تحتاج إلى تشجيع حكومي قد يكون عبر تقديم إعفاءاتٍ ضريبيةٍ ودفع المصارف لتقديم قروضٍ مُيسّرةٍ وطويلة الأمد للمستهلكين لشرائها، وعلى سبيل المثال يمكن طرح مبادرةٍ للتخلّص من المُكيّفات القديمة شرهة الاستهلاك بأن تشتريها الحكومة وتقوم بإهلاكها مع تيسيرات لشراء مكيّفات "إنفرتر".
وفي مجال الصناعة، يمكن تشجيع المصانع على التوسّع بالتوليد الذاتي للكهرباء من الطاقة الشمسية، بخاصة أنّ المصانع عادةً تعمل في النهار بالأساس، مما قد يعني عدم حاجتها إلى بطارياتٍ كثيرةٍ لتخزين الطاقة للعمل ليلًا، علمًا أن التّخزين من أكبر عوامل ارتفاع تكلفة الطاقة الشمسية.
تشجيع الاستثمارات الخضراء يجعل المنتجات المصرية أكثر ملائمة للتصدير للدول المتقدّمة
إنّ كل ما سبق يتطلّب استراتيجيةً واسعةً تشمل القطاعات كافّة، وأن يصبح جزءًا من تقييم كلّ قطاع مدى نجاحه في ترشيد الطاقة، ويمكن تأسيس أكاديمية للطّاقة لإجراء البحوث والتدريس لطلاب الدراسات العليا من التخصّصات كافّة من منظور ترشيد الطاقة.
إنّ مثل هذه الاستراتيجية ستكون مفيدةً لجميع الأطراف، فهي ستقلّل استنزاف ميزانية البلاد ومواردها المحدودة من الطاقة، كما ستُخفِّض عبء الطاقة المالي على المواطن النّاتج عن إزالة الدعم، وستقلّل تلوّث البيئة، خصوصًا وأنّ القاهرة تعاني من التلوّث الشّديد.
وتَبنّي مثل هذه الاستراتيجية يمكن أن يعزّز الدعم الخارجي، إضافةً إلى تشجيع الاستثمارات الخضراء، ما يجعل المُنتجات المصرية أكثر ملائمةً للتصدير للدول المتقدّمة، كما أنّ مثل هذه الاستراتيجية يمكن أن تكون نموذجًا قابلًا للتطبيق في دول عربية أخرى.
(خاص "عروبة 22")