تواجه أمّة العرب، في هذه اللحظة، انكشافًا غير مسبوقٍ، ليس فقط أمام العالم، ولكن ـ وهذا هو الأهمّ ـ أمام نفسِها، ومخطئٌ من يتصوّر، أو يُصوّر لنفسه وللآخرين، أنّ حالة الانكشاف هذه وليدة لحظة "الطوفان"، لأنّها جاءت عبر تفاعلاتٍ وتراكماتٍ تكدّست فوق بعضها لتصوغ واقعًا تتنازعه عوامل التفكّك والتشرذم، وتُغذّيه تبعيات خارجية، وتُثقله رواسب من ماضٍ طويل إلى حاضرٍ بلا يقين.
عندما تفقد الأمّة بوصلتها، وتفتقد القدرة على الفعل، أو تحصر نفسها في ردّ الفعل، فإنّها ليست أمام تعثّرٍ عابرٍ، بل هو انكشاف فاضح لأزمةٍ أعمق تتجاوز ما نراه على السطح، ما يجعل حركتها من نوعيّة "التقدّم نحو الأسوأ".
لم يعد الحديث يدور عن أزمة عابرة بل عن انكشاف سياسي وفكري وقيمي واستراتيجي
حين تكون الحالة هذه، يصبح المستقبل عبئًا، لا تعود الأزمة فيما ضاع، بل فيما هو قادم، أزمة العرب لا تكمن فقط في التراجع، بل في الانكشاف أمام المستقبل، أمّة لا تعرف إلى أين تمضي، ولا من يقودها، ولا المشروع الذي يُنتظر منها. إنّه أشبه بتقدّم بلا وجهة، أو سفينة فقدت بوصلتها في بحرٍ متلاطمٍ من التحوّلات العالمية والضّغوط الإقليمية والانقسامات الداخلية.
بدأ الانكشاف فرديًا على مستوى الدول، بما فيها تلك التي كانت يومًا تُسمى "دول المواجهة"، أو تلك التي واجهت تغوّلًا إيرانيًا، أو أخرى تقف على خطوط النار حول مصادر مياهها ومعابرها، ثم عبّر عن نفسِه جماعيًا بعد "الطوفان"، وما صاحبه من "الخذلان" في صورةٍ كشفت أثر غياب المشروع العربي المشترك، ووضعت العرب جميعًا أمام خطرٍ وجوديٍ يأتيهم من مشاريع لا تتوقّف عند حدودنا، ولا تنتظر استئذانًا لدخول ساحاتنا.
لم تعرف أمّة العرب، في تاريخها الحديث، لحظة انكشافٍ أعمق من تلك التي تعيشها اليوم. إنّها اللحظة ذاتها التي انهار فيها المشروع، وتآكلت فيها المناعة، وغابت الإرادة. تبدو أمّة خرجت من التاريخ من دون أن تدخل المستقبل، تتنازعها مشروعات الآخرين، بينما تغيب عنها أيّ رؤية عُليا تُنظّم الفوضى أو تُقاوم التآكل.
نتائج هذا الانكشاف لا تُقاس فقط بالخسائر على الأرض، بل بما هو أعمق وأخطر: فقدان المعنى. وهو التمهيد الحقيقي للانهيار، حيث تتقدّم البُنى وتتقهقر القيم، تنمو المدن وتُضاء الأبراج، بينما تغيب الأسئلة الكبرى: مَن نحن؟ إلى أين نمضي؟ وماذا نريد أن نكونَ في عالمٍ يُعاد تشكيله من جديد؟
لم يعد الحديث يدور عن أزمةٍ عابرةٍ أو تعثّرٍ مؤقتٍ في المسار، بل عن انكشاف شامل: سياسي، وفكري، وقيمي، واستراتيجي.
في غياب رؤية استراتيجية واحدة جامعة حضرت المشاريع الإقليمية والدولية لتجد أمامها فراغًا سهلًا للتمدّد
وقد تجلّى هذا الانكشاف في ثلاثة وجوهٍ رئيسية:
أوّلها، الانكشاف السياسي: حيث تراجعت عواصم عربية كبرى عن أدوارها، وباتت مراكز القرار مرتهنةً لقوى خارجية، أو عاجزة عن التأثير في محيطها.
ثانيها، وهو الأخطر، الانكشاف الأمني: حيث تفكّكت حدودٌ كانت تُعدّ غير قابلةٍ للمساس، وتحوّلت العديد من الدول العربية إلى ساحات صراعٍ مفتوح.
أمّا ثالثها، فهو الانكشاف الحضاري: حيث تراجع المشروع القومي برمّته، وباتت الهوية العربية نفسها محلّ تساؤل، في ظلّ صعود النزعات الطائفية والعِرقية التي تهدّد بتفتيت ما تبقّى من مشتركات العرب.
أخطر ما في الحالة العربية الراهنة أنّ القرار الاستراتيجي لم يَعُد في أيدي العرب. وفي غياب رؤيةٍ استراتيجيةٍ واحدةٍ جامعةٍ، حضرت المشاريع الإقليمية والدولية لتجد أمامها فراغًا سهلًا للتمدّد.
تخلّت النُّخب الحاكمة، تباعًا، عن فكرة المشروع سواء كان وطنيًا أو قوميًّا أو حضاريًا، لم تَعُد هناك "غاية" تسعى الدولة لتحقيقها، ولا "وجهة" يتطلّع الناس إليها، الأسوأ أنّ ما نشهده اليوم ليس مجرّد غيابٍ للمشروع، بل هو - في جوهره - تآكل للمناعة الحضارية.
في كل أزمة كبرى تكمن فرصة أكبر لإعادة التأسيس
لم تَعُد الثقافة مقاوِمة للتفاهة، ولا المؤسسات عصيّة على الاختراق، ولا الخطاب العام متماسكًا في وجه الانهيار بمضمونه الحقيقي، بات النظام العربي مكشوفًا أمام الخارج سياسيًا واقتصاديًا، كما أصبح مكشوفًا أمام الداخل عينيًّا واجتماعيًّا: شروخ في الثّقة بين الناس والدولة تتعمّق، وميلٌ للاستقالة من الشأن العام يتزايد.
إلى أين مِن هنا؟
لا تبدو لحظة الانكشاف الراهنة أزمةً طارئةً، بل مفترق طرقٍ حقيقيّ تُختبر فيه قدرة الأمّة على البقاء كفاعلٍ في عالمٍ يزداد اضطرابًا ويتغيّر بوتيرةٍ متسارعة.
الأخطر ليس في الانكشاف نفسه، بل في طريقة التكيّف معه؛ إذ باتت "الواقعية" هي كلمة السر في أروقة السياسة العربية. واقعية لا تُمارس بحسبانها فنّ المُمكن، بل باعتبارها فنّ الوقوع في حبائل المخططات الأجنبية. واقعيةٌ تُفرغ السياسة من مضمونها، تُبرّر القبول بالأمر الواقع، وتُعفي صانع القرار من عبء التفكير في استراتيجيات تتجاوز اللحظة. والنتيجة: تقدُّمٌ متواصلٌ نحو الأسوأ.
توَهَم العرب، في الكثير من محطّات تاريخهم الحديث، أنّهم يملكون الوقت، وأنّهم قادرون على شراء التأجيل، أو استبدال الفعل بالبيان، فتلكّأت خطواتهم أمام سؤال المصير غافلين عن أنّ التاريخ لا يعيد فرصه لمن فوّتها.
السؤال المُعلّق اليوم فوق الرؤوس: هل ما زال هناك من يملك الإرادة لتجاوز هذا الانكشاف؟ أم أنّ هذه الأمّة، التي كانت يومًا قلب الخريطة، ستواصل مسارها المسدود، حتى تتحوّل إلى مجرّد مساحةٍ جغرافيةٍ تُدار من الخارج؟.
هذا الإدراك العميق لحالة الانكشاف لا يعني اليأس من النّهوض، بخاصة إذا تحوّل إلى وعي نُخبويّ صادق يقوده فكر استراتيجي بعيد المدى، ثم إلى غضب شعبيّ عاقل قادر على استعادة البوصلة، معًا يمكن أن يصنعا الفارق.
من مبشّرات الخلاص أنّ المعنى يولد من قلب الانكشاف، وأنّ في كل أزمة كبرى تكمن فرصة أكبر لإعادة التأسيس.
ولعلّ أفضل ما يمكن أن تُنتجه لحظة الانكشاف العربي الراهنة، هو إدراك حجم السقوط، لا من أجل البكاء عليه، بل لبناء وعي جديد بمحدّدات النهوض وروافعه.
من لا يصوغ رؤيته بنفسه يُكتب تاريخه بأقلام الآخرين
على الرَّغم من اتّساع رقعة الانكشاف، فإنّها لم تخلُ تمامًا من نقاط مقاومة متناثرة: مبادرات فكرية متقدّمة، وتجارب إنتاجية جادّة، ومواقف شعبية ترفض الاستسلام للخراب. تلك المحاولات، وإنْ بَدت محدودةً أو معزولةً، تؤشر إلى أنّ الرّوح لم تُهزم بالكامل، وأنّ جذوة المعنى لا تزال تحت الرّماد.
من أراد الخروج من هذا الانكشاف، فليبدأ باستعادة قراره السيادي؛ فمن لا يملك قراره، لا يملك مصيره، ومن لا يصوغ رؤيته بنفسه، يُكتب تاريخه بأقلام الآخرين.
علّمنا التاريخ أنّه لا يتوقف طويلًا أمام الأُمَم التي لا تعرف كيف تنهض من رقدتها، وأنّه لا يعود أدراجه لمن فاته القطار.
(خاص "عروبة 22")