طوال 18 شهراً من حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ضد فلسطينيي غزة ظلّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يصرح، بين فترة وأخرى، بأن "إسرائيل لم تحقّق أهدافها بعد"، وأنها لم تقض تماماً على القوة الصاروخية لحركة "حماس"، وأنه ثمة أنفاق لم تدمر، وأن هدف الحرب هو تحرير الرهائن أو الأسرى الإسرائيليين، وخلق واقع لا يسمح بـ"طوفان أقصى 2"، لا من غزة ولا من الضفة، ولا من أيّ جبهة أخرى.
معلوم أن تلك التصريحات كانت تتكرر على لسان معظم قادة إسرائيل السياسيين والأمنيين، لتبرير استمرار تلك الحرب الوحشية، التي تهدف، في حقيقة الأمر، إلى محو قطاع غزة، أو تدميره، بحيث يصبح غير صالح للعيش، وتالياً دفع الفلسطينيين، بطريقة أو بأخرى، إلى مغادرته، للتخفف من الثقل الديموغرافي لغزة، ولجعلها بمثابة عبرة للفلسطينيين، من النهر إلى البحر، ولإخضاعهم لهيمنة إسرائيل.
المشكلة أن تلك الادعاءات كانت تنطلي على قادة "حماس"، والمتعاطفين معها، فيعودون إلى تكرارها، وإعادة ضخّها من قبيل الافتخار، ولدرء أيّ مسؤولية عن خيار "الطوفان"، في انفصام مريع عن الواقع، على رغم أن إسرائيل دمّرت نحو 80 في المئة من عمران غزة وبناها التحتية، وكبّدت الفلسطينيين خسائر بشرية باهظة، هي الأكثر في تاريخهم، على الإطلاق، ربما هي أزيد ممّا خسروه منذ بداية الغزوة الصهيونية إلى فلسطين، مطلع القرن الماضي، إذ ثمة ربع مليون ضحية، بين قتلى وجرحى ومعوّقين ومفقودين تحت الركام وأسرى في المعتقلات، مع بقاء مليونَي فلسطيني في غزة في ظروف قاسية وبائسة ومهينة جداً، من دون إمدادات من الماء والغذاء والكهرباء والوقود والدواء، يعيشون على المساعدات الخارجية، المشروطة، والمقيّدة من قبل إسرائيل.
المشكلة، أيضاً، أن قادة "حماس" ظلوا ينأون بأنفسهم عن أيّ مراجعة، رغم أنهم تراجعوا، عملياً، عن الشعارات أو الأهداف التي أشهروها لحظة هجوم "طوفان الأقصى"، إذ تلاشى تماماً هدف تبييض السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين، بعدما بات لدى إسرائيل أضعاف الأسرى الذين كانوا قبل تلك الحرب، من فلسطينيي غزة والضفة، كما تبين أن هدف وقف الانتهاكات الإسرائيلية للمقدسات في مدينة القدس لم يعد مجدياً، في حين أن هدف رفع الحصار عن قطاع غزة لم يعد ممكناً البتة، في ظل الواقع القائم. هذا يشمل، أيضاً، كل الادعاءات الأخرى، من نوع فرض قواعد للصراع، أو الاشتباك، وتوازن الرعب، أو الردع، التي لم تكن تبالي بها إسرائيل ولا في أي يوم من الأيام.
ولنلاحظ، أيضاً، أن "حماس" لم تعد تطرح في شروطها التفاوضية إنهاء الاحتلال في الضفة، إذ إنها لم تعد قادرة على إنهاء الاحتلال في غزة، التي التهمت إسرائيل ما يقرب من 40 في المئة من مساحتها، بل إن كلام "حماس" عن العودة إلى واقع ما قبل "طوفان الأقصى"، بات مجرّد إنشاء، ويغطّي على الواقع المؤلم، إذ إن غزة لم تعد كما كانت، لا جغرافياً، ولا بشرياً، ولا اقتصادياً، ولا رمزياً.
ثمة أوهام أخرى أحاطت بفكرة "حماس"، وقفت وراء "الطوفان"، إذ تصرفت كأنها قادرة على حرب إسرائيل، كجيش لجيش، وكصاروخ لصاروخ، وبالضربة القاضية، في حين أن ذلك انطوى على مغامرة كارثية مع دولة متفوقة بشكل مريع على محيطها، وليس إزاء مجرد فصائل، إضافة إلى أنها بمثابة وضع دولي في الشرق الأوسط.
أيضاً كانت مراهنة "حماس" على ما يسمى "وحدة الساحات" كارثة عليها وعلى حلفائها، رغم أن ذلك الادّعاء، الوهم، لم يفعّل إلى الدرجة المناسبة. هذا يشمل باقي المسلّمات الخاطئة، من نوع أن إسرائيل لا تحارب خارج أرضها، وأنها تتحاشى أيّ حرب طويلة، وأنها غير قادرة على تحمّل خسائر بشرية كبيرة، وقد تبين كل ذلك عن إدراكات خاطئة، ومتسرعة، وساذجة، أودت بالفلسطينيين بالنتيجة إلى كارثة.
فوق كلّ ما تقدم، فإن ما يثبت قصور إدراكات قيادة "حماس"، وانفصامها عن الواقع، هو مراهنتها على أزمات إسرائيل، السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، كأن ثمة أيّ مقارنة بين أزمات إسرائيل، وهي حقيقية، وأزمات العالم العربي، إذ إسرائيل لديها فائض من الإمكانيات، ونوع من نظام سياسي، ودعم خارجي، يمكنها من حل أزماتها، أو تجاوزها. الأهم من ذلك، أنه إذا كانت إسرائيل تعاني من أزمات فما هو واقع الشعب الفلسطيني مثلاً، في غزة أو الضفة أو في مجتمعات اللاجئين في بلدان اللجوء والشتات؟
في المحصلة، فإن هذا المنطق الغريب والقاصر، والمحمل بالأوهام، والمنفصم عن الواقع، والمنكر لكارثة فلسطينيي غزة، لا يزال يعمل مع رفض أية مراجعة نقدية، إذ إن قيادة "حماس" لا تزال تتصرف، وكأن شيئاً لم يكن، أو كأنه يمكن إعادة غزة إلى ما قبل 7/10/2023!
(النهار اللبنانية)