تقدير موقف

الدور الإقليمي لإيران بعد العقوبات.. والبوصلة الإسرائيلية!

بعد الجولة الثالثة، يرتفع منسوب التفاؤل بتقدّم المفاوضات الأميركية - الإيرانية نحو اتفاقٍ جديدٍ بين واشنطن وطهران حول أنشطة إيران النووية. حظوظ النّجاح متعدّدة إنما من دون إسراف وتوقّع اختراقاتٍ تجعل من إيران دولةً مثل السويد أو فنلندا. إيران تدخل مفاوضاتٍ غير متكافئةٍ لأنها مُنهكة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وهدرت طاقاتها الغنيّة بسبب طوق العزلة الذي فُرض عليها والعقوبات الغربيّة عامةً والأميركية خاصةً التي أُخضعت لها نتيجةً لعقودٍ من سياساتها العقائدية المتشدّدة وممارساتها المخرّبة التي قوّضت علاقاتها مع الأقربين والأبعدين.

الدور الإقليمي لإيران بعد العقوبات.. والبوصلة الإسرائيلية!

إيران تدخل المفاوضات هذه المرة مُرهقةً أكثر بعكس ما تدّعيه من استقرار داخلي وقدرة على التحمّل والصمود اقتصاديًا. تدخلها وهي تعضّ على جرح الخسارة العسكرية التي مُنيت بها "أذرعها" في المنطقة من ميليشياتٍ مسلحةٍ إلى أنظمةٍ سياسيةٍ، وتواجه خصمًا على الطرف المقابل من الطاولة شرسًا ومتشدّدًا وقويًا، يصعب توقّع تصرفاته وقراراته سلبًا أم إيجابًا، سلمًا أو حربًا.

إدارة ترامب بحاجة إلى إنجاز سريع بعد تعثّر وساطة أوكرانيا والعناد الإسرائيلي في غزّة والمعارضة الشرسة في الداخل

تواجهُ إيران إدارةً أميركيةً مختلفةً عن سابقاتها انقلبت على تحالفاتها التاريخيّة وباتت أقرب إلى خصومها من حلفائها وبخاصةٍ غريمتها التقليدية روسيا، وذلك متغيّر رئيس لا بد وأن يؤثّر في العلاقات الوطيدة بين إيران وروسيا التي تُراعي الجار الإيراني بينما عينها وقلبها على مصالحها وعلى رأسها أهدافها في أوكرانيا. وعلى خلاف ما تزعمه أيضًا، هذه المفاوضات حيوية لها لأنّ إرساء علاقات طبيعية مع أميركا يؤدّي إلى رفع ولو جزئي للعقوبات ما من شأنه إراحة النظام الإيراني وتثبيت أقدامه وإعطاؤه جرعةً مقوّيةً قادرةً على احتواء المعارضة المتنامية في الداخل.

من جهة أخرى، إدارة دونالد ترامب بحاجةٍ إلى تحقيق إنجازٍ سريعٍ مُهمٍّ بعد تعثّر الوساطة في أوكرانيا والعناد الإسرائيلي في غزّة والمعارضة الشرسة التي تواجهها في الداخل إثر الإجراءات الخارجية والداخلية المتّخذة، من التعريفات الجمركية والعلاقات المتوتّرة بين ضفّتَيْ الأطلسي، إلى الشؤون الداخلية البحتة من العلاقة المتشنّجة مع القضاء والجامعات والإعلام والتعامل مع المهاجِرين وغيرها من القضايا.

هذه الوقائع المُحيطة بتوقيت المفاوضات تُشجّع المُتفائلين بالتوصّل إلى اتفاق. إلّا أنّ ما سيكون عليه مضمون هذا الاتفاق يحمل هواجسَ كثيرةً ويطرح أسئلةً عديدةً، أبرزها إذا ما كان سيقتصر على منع النشاط الإيراني النووي من بلوغ قدراتٍ تسمح بالوصول إلى سلاحٍ نوويّ، أم سوف يطال برنامج الصواريخ الباليستية والقدرات الدفاعية الإيرانية، وأدوار إيران المُزعزعة للاستقرار عبر حلفائِها في أكثر من دولة؟ وهل سيبقى ضمن إطار "البعبع" النووي الإيراني أم سيتعمّق أكثر ليطال أهداف طهران الجيوسياسية والعقائدية؟.

الإجابات الحاسمة صعبة من دون معرفة مضمون الاتفاق وهي مرتبطة أولًا بقدرة إيران على التحوّل إلى دولة طبيعية

إذا غلبت فرص النجاح وتمّ التوصل إلى تسويةٍ بشأن النّووي وربما الصواريخ الباليستية مقابل رفع العقوبات أو بعضها وبدء تدفق الأموال إلى إيران وفتح أبواب الاستثمارات الغربية وغيرها، سيؤدّي ذلك إلى متغيّر رئيس في المنطقة يُعادل أو يفوق المتغيّرات الحاصلة جرّاء حرب 2023 بين إسرائيل وحلفاء إيران في غزّة ولبنان وسوريا واليمن. نتائج هذا المتغيّر مرتبطة بمعرفة حقيقة أهداف الدور الإقليمي لإيران من دون الهواجس الإسرائيلية والعربية من إيران نووية. سبق وأشرنا في أكثر من مقال إلى أنّ أيّ تقويض لدور إيران المُزعزع في المنطقة لا بدّ وأن يأخذ بالاعتبار وجهه الديني والإيديولوجي كما أهدافه الجيوستراتيجية والتي تُختصر بتشكيل منطقة نفوذٍ لحماية نظامها الشيعي من الدول المحيطة التي يُهيمن عليها السنّة، وتصدير الثورة الإيرانية الإسلامية بما يتماشى مع فكر مؤسّسها روح الله الخميني. واستخدمت عبر العقود ثلاث وسائل لتحقيق ذلك، الأولى هي الحروب بالوكالة عبر مجموعات محليّة مُسلّحة "مُستقلّة" وغير نظاميّة بما يسمح لها بالتنصّل من المسؤولية، والثانية هي الحروب البدائية التي تستخدم فيها تكتيكات وأسلحة منخفضة التقنية، والثالثة استغلال القضية الفلسطينية وجعلها "حصان طروادة" لدخول المنطقة.

الإجابات الحاسمة صعبة من دون معرفة مضمون الاتفاق العتيد من جهة، مهما كان هذا المضمون، وهي مرتبطة أولًا برغبة إيران بالتخلي عن أهدافها تلك من جهة ثانية، وقدرتها على التحوّل إلى دولة طبيعية في المنطقة تُشجّع على شرق أوسط كواحة سلام أم أنّ العقدة الإسرائيلية ستبقى مهيمنةً على السلوك الإيراني؟ هل ستتخلّى إيران عن هدف "اقتلاع إسرائيل"؟ كيف ستُترجم إيران المزدهرة والغنية دورها الإقليمي الجديد إذا لم تتخلَّ عن شكل وطبيعة علاقاتها القديمة مع الحلفاء، وأي علاقات مستقبلية معهم وما هو مصير هؤلاء، الذين تعرّضوا لهزيمةٍ نكراء ساحقة والضغوط لا تزال مستمرّة لتطويقهم؟ هل تُقدِم على فكّ الروابط الدينية والثقافية والعقائدية وما تبقّى من روابط عسكرية وأمنية معهم؟.

صعوبة تكيّف النظام الإيراني مع روحيّة أي تسوية من دون أن يغيّر جلده

معرفة حقيقة الدور الإقليمي الإيراني الجديد إذا كان هناك من دور جديد، تتوقّف على إقدام إيران على إرساء علاقات حُسن جوار وتبادُل اقتصادي ومالي واستثمارات متبادلة ومشاريع تنموية مع جيرانها ومُحيطها، أو عودتها إلى السلوك المُعتاد باستخدام السطوة والسيطرة عبر البيئات المحلّية، علمًا أنّ طهران اعتادت التأكيد أنّ حلفاءها هم قوى وطنية محلية مستقلّة لا سطوة ولا سيطرة لها عليهم.

إنّ تقييم الدور الإقليمي لإيران بعد تدفّق الأموال عليها يبدأ من مسار علاقتها مع البيئات المحلية الموالية لها وما ستؤول إليه أحوال وممارسات هذه القوى إذا أعادت طهران تمكينها سياسيًا واقتصاديًا وماليًا وثقافيًا مع الأمل باستثناء التمكين العسكري أو الأمني.

المتشائمون على حقّ لجهة صعوبة تكيّف النظام الإيراني مع روحيّة أي تسوية من دون أن يغيّر جلده، وإلّا تكون المعضلة الإيرانية تأجلت إلى وقتٍ قد يطول أو يقصر لأنّ هواجس إسرائيل الدفينة لن يُبدّدها اي اتفاق لا يضمن تغيير السلوك الإيراني، لا سيما بعد الهزيمة النّكراء التي كبّدتها إياها. متابعة البوصلة الإسرائيلية إبّان المفاوضات ضرورة حتميّة للقدرة على التوقّع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن