بصمات

التيه الذي أغرقنا فيه أنفسنا!

إذا كان عبد الرحمن منيف قد استلهم من الأحداث التي زامنت اكتشاف النفط في المنطقة العربية شخصية "متعب الهذال" بصفته "نموذجًا" عكس حالة التيه التي استبدّت بالفرد العربي في مواجهة تحوّلات تشكّل "مُدن الملح"، فإنّه لو كُتب له معايشة سلسلة التطوّرات الدراماتيكية التي يشهدها العالم العربي في السنوات الأخيرة لحار أمره في إيجاد الطابع أو الوصف المناسب لها لشدّة تسارعها وعظمة أهوالها التي تهدّد المصير العربي بأسوأ النّهايات وأخطرها.

التيه الذي أغرقنا فيه أنفسنا!

يكفي تفحّص الخريطة العربية مشرقًا ومغربًا لملاحظة حجم التحوّلات السياسية والجيوستراتيجية المُؤذنة بتشكّل خريطةٍ جديدةٍ للمنطقة. ففي غزّة تتمّ الإبادة الجماعية لأهلها باستخدام أحدث التكنولوجيات والأسلحة مع حصار إنساني رهيب مُنع بمقتضاه حتى إدخال الغذاء والماء والمُستلزمات الطبية. وفي سوريا، باتت تركيا وإسرائيل تتفاوضان علنًا على أماكن تمركز قواتّهما العسكرية، وضمّ المزيد من الأراضي السورية لمجالهما الترابي. أمّا في المغرب العربي فلا تزال قضية الصحراء الكبرى تُستخدم ورقةً لإعاقة تكامل دول المغرب العربي، فضلًا عن مسألة الهجرة غير النّظامية حيث يتوافد يوميًا آلاف الأفارقة من جنوب الصّحراء ممّا يُضيف أعباء كثيرة لا طاقة لدول المنطقة على تحمّلها.

لا يمكن اعتبار حالة التيه أو المتاهة العربية الرّاهنة صدفة، إذا ما تمّ تشريح الوضع العربي الرّاهن بعقلانية وموضوعية، إذ تعاضدت جملةٌ من العوامل المُتراكمة أفضت إلى تلك الحالة المستعصية. فطبيعة الدولة العربية الحديثة لم تكن سويّةً، إذ هي أقرب ما تكون إلى "الدولة الهجينة" التي لم تتخلّص بعد من موروث دولة الأحكام السلطانية في مستوى بناها العميقة ورؤيتها للفرد والمجتمع. فمن عهد التنظيمات إلى مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية وما صاحَبَ ذلك من هزّاتٍ سياسيةٍ واضطراباتٍ اجتماعيةٍ فشلت جميع النّخب السياسية المتعاقبة في صياغة ميثاقٍ اجتماعيّ راسخٍ يحسم الجدل نهائيًا في طبيعة تلك الدولة، ويتبنّى نهائيًا مشروع الدولة الوطنية القائمة على تكريسٍ فِعلي للقانون والمؤسّسات بصفته خيارًا تاريخيًا كونيًّا وقاطرةً لتكاملٍ عربيّ مستقبليّ لا يمكن تعطيله أو التلكؤ فيه.

ما يهمّ الغرب استمرار التبعية وتنمية التخلّف العربي وهو ما يُفسّر تعاونه مع الأنظمة الديكتاتورية ما دامت ضامنة لمصالحه

ولئن كانت تلك الهجانة المُشار إليها ترجمةً لنوعية البنى الاجتماعية والثقافية السائدة المتّسمة بالرثاثة والازدواج في تفاعلها مع مستجدّات العصر وتحدّياته، فإنّه لا يمكن إغفال دور الأنظمة المُتعاقبة في تكلّس تلك البنى باعتبار أنّ الجمود يخدم استمرارية النّسق القائم الذي يحفظ توازنات ومصالح الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين داخليًا وخارجيّا.

بقدر ما لا يمكن التعويل كثيرًا على نظرية المؤامرة في تفهّم حالة التيه العربي بحكْم أنّها في جوهرها ناجمة عن قصور شامل على مستوى الوعي والممارسة، فإنّه لا يمكن إنكار دور الاستعمار المُباشر والجديد في تعميق التيه وتوسيعه. إذ لم يكن الغرب جادّا في دعم النهضة العربية أو مشروع الدولة الوطنية أو محاولات الانتقال الديموقراطي أو حتى مبادرات السّلام الفلسطيني - الإسرائيلي التي بادر إليها، إذ ظلّت نظرته إلى العالم العربي محكومةً بالتوجّس والريبة. فما كان يهمّه أساسًا استمرار التبعية وتنمية التخلّف العربي. وهو ما يُفسّر تعاونه مع أشدّ الأنظمة ديكتاتوريةً وظلاميةً ما دامت ضامنةً لمصالحه.

لا يمكن للإنسان الذليل والمجتمع المقهور أن يبدع أو ينتج

يظلّ الخروج من معضلة التيه والمتاهة خيارًا ممكنًا على الرَّغم من تعقّد الأوضاع إذا ما تمّ اجتناب الخطابات القُصْوَوِيَّةِ التي تقيس الأوضاع من منظور التعالي عن الواقع أو التنصّل من المسؤولية التاريخية. فلا يمكن تشكّل مهاد للاستفاقة التاريخية من دون خطابٍ عقلانيّ واقعيّ يساعد على التصالح مع الذّات ومصارحتها في الإقرار بالأخطاء المُرتكبة التي صنعت الإخفاقات والانتكاسات العربية من دون أن يعني ذلك جلدًا للذّات. فممّا لا شكّ فيه أنّ المنظار الذي ننظر به إلى ذاتِنا وإلى الآخر يحتاج تغييرًا جذريًا لكي لا يستمّر سوء التقدير للوقائع والقدرات وما ينجرّ عن ذلك من أوخم النهايات وسوء المآلات.

لا يمكن الاستمرار في إهدار العامل التاريخي، وإنّما لا بدّ من الانخراط في تبنّي المشترك الإنساني في ما يخصّ أهمّ القيم الكونية المتّصلة بالتعدّدية والتنوّع والديموقراطية بحكْم أنّ التجارب التاريخية الحديثة والمُعاصرة أثبتت صلاحيتها وفوائدها في حفظ كرامة الفرد واستقرار المجتمعات وتفرّغها إلى صنع الحضارة. فلا يمكن للإنسان الذليل والمجتمع المقهور أن يبدع أو حتى ينتج، ومن ثمّة فتجاوز حلّة التيه يظلّ رهين تحرير الإنسان العربي من الإكراهات التي تكبّله وتشلّه. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن