العودة إلى تفكيك جذور الاستبداد العربي مُهمّة لكي نفهم مكوّنات المأزق الحالي وكيفية الخروج منه. تجربة العرب التاريخية لا تحتوي إلا على الاستبداد، حقيقة لا تختلف في تفاصيلها عن بقية شعوب العالم التي لم تعرف أشكالًا أكثر حداثة وديموقراطية (ولوْ على مستوى نظريّ) إلا بدءًا من القرن التاسع عشر، لكن حتى هنا تأخّر العرب عن اللّحاق بركب التعدّدية وتقبّل تداولية السلطة، يعود هذا إلى عراقة تجربة الاستبداد السياسي المترسّخة على مدار قرونٍ، وتجذّرها في المجتمع وبنيته على المستوى الفكري والسياسي.
الرّوح الطوعية القابلة للاستبداد نتيجةٌ لتجربة تاريخية
في العصور القديمة، شهدت المنطقة العربية نشأة الملكية المُطلقة التي تستمدّ صلاحياتها من الآلهة مباشرة، فَحَكَمَ الملوك باعتبارهم أنصاف آلهة أو التجسيد الحيّ لها، ولم يختلف الوضع في العصور العربية، فالخلفاء الأمويّون والعباسيّون والفاطميّون حكَموا من منطلق السلطة المُطلقة، بل حكَم بعضهم باعتباره "ظل الله على الأرض"، ثم جاءت فترة الهيْمنة الإقطاعية مع سيطرة القبائل الرّعوية التركية القادمة من وسط آسيا، فزاد تعمّق بنية الاستبداد وتغلغلها في الذهنيّة العامّة للمجتمعات العربية بدايةً من القرن الحادي عشر الميلادي.
النّظام الإقطاعي العسكري استطاع النّفاذ إلى صلب المجتمع وتغيير ثقافته عبر التحالف بين طبقة الحكّام من أمراء الحرب وفقهاء المذاهب، الذين تحالف تيارٌ منهم مع السّلطة القائمة، وعمل على شرْعنتها بمقولاتٍ سياسيةٍ تُرسّخ الاستبداد من نوعية "من قامت شوكته وَجَبَت طاعته"، وهي المنظومة التي ظهرت في ظرفٍ تاريخيّ تعلّق بالحرب ضدّ الصليبيين والمغول. وسيطرت تلك المنظومة التي اعتمدت على حكم السيف المدعوم بالعمامة معظم بلدان العرب، واحتكرت تقريبًا كلّ مداخيل المجتمعات التي سيطرت عليها، وتركت الفتات لشعوبٍ عاش أغلبها في فقرٍ مدقعٍ وبؤسٍ مقيمٍ واستبعادٍ كاملٍ من المشاركة في السلطة بطبيعة الحال، وهو وضع استمرَّ مع السيطرة العثمانية على المنطقة.
تبدو الدولة العربية المعاصِرة في الكثير من الحالات ريعيّة وهو النمط الذي ازدهرت فيه الدولة الاستبدادية
وعندما بدأت عمليات التحديث في المنطقة في القرن التاسع عشر بدأت من أعلى أيّ باختيارٍ من السلطة، ومنحة منها، ولأهداف تخصّها في الأساس، ولم تأتِ أبدًا نتيجة حراك مجتمعي، ففي مصر مثلًا جاء التحديث من رأس السلطة محمد علي باشا، الذي أراد تحديث الجيش في مساعيه الرّامية لتثبيت حكمه وذرّيته على مصر، ومن الأهداف الذاتية جَرّ بناء جيشٍ حديثٍ خلفه عمليات تحديث تتعلّق بمجالاتٍ مختلفةٍ، فترسّخت فكرة المنحة من السلطة للرعية.
الرّوح الطوعية القابلة للاستبداد نتيجةٌ إذن لتجربةٍ تاريخيةٍ كانت السلطة فيها تمنح بحسب مزاجها ضمن مفهوم "الإحسان"، والشعوب تتلقّى بالرّضا، فتتحوّل الجماهير إلى خانة ردّ الفعل والمتلقّي، وهو ما ساعد في رسوخ أنظمة وراثية أو عسكرية أو طائفية، تحتكر السلطة والثروة وتقمع الشعوب التي يقتصر سقف طموحها على الحدّ الأدنى من أساسيّات الحياة، وكأنّ هذا هو العقد الاجتماعي الوحيد المطروح، والذي لم تنجح ثورات الربيع العربي في زحزحته. لذا ظنّ البعض أنّ العرب لديهم قابليّة للاستبداد كخلقٍ فيهم، لكنّ الحقيقة أنّ هذا نتيجة ميراثٍ طويلٍ من الاستبداد استطاع أن يجدّد من شروط حضوره التاريخية على الرَّغم من انتفاء الحاجة له، إذ تبدو الدولة العربية المعاصِرة في الكثير من الحالات ريعيّة، وهو النمط الذي ازدهرت فيه الدولة الاستبدادية في ما قبل العصر الحديث.
يجب التركيز على بناء مشروع نهضوي عربي هدفه الأول والأخير هو الإنسان العربي
في النهاية، الاستبداد ليس قَدَرًا عربيًا، بل إنّه نتاج تراكماتٍ تاريخيةٍ وبنى سياسيةٍ واقتصاديةٍ ودينيةٍ وثقافيةٍ تتعاضد في ما بينها، ويجب العمل عليها جميعها بالاشتباك والتحليل وكشف عوارها وفسادها، مع التركيز على بناء مشروع نهضوي عربي هدفه الأول والأخير هو الإنسان العربي وصوْن كرامته وتحقيق الحياة الكريمة له. والبداية تكون بتغيير الأفكار البالية التي تُهيْمن على المجتمعات العربية وتجعل أفراده يمارسون الاستبداد في ما بينهم، فضلًا عن التركيز على تعليمٍ نقديّ يعلّم المرء التفكير الحرّ المستقل، لا تعليم التلقين المكرّس لثقافة الطاعة العمياء، وتفنيد منظومة طاعة ولي الأمر المُطلقة، وربطها بأُسُسٍ واضحةٍ تقول صراحةً بالحقّ في المراقبة والمحاسبة والمحاكمة.
(خاص "عروبة 22")