بصمات

التعدّد اللغوي والإثني: مخاطِر الفهم المغلوط!

يحتضن العالم العربي تنوّعًا لغويًّا وإثنيًا اختلفت مصادره ومستوياته بحسب السّياقات التّاريخية والسّياسية التّي أفرزت تأثيراته في المجتمع والأفراد. لم تكن الأغلبية العربية وحدَها مَن صنعت ما يُطلق عليه الهويّة العربيّة، وإنّما كان للأقلّيات الإثنية غير العربية دور في خلق التعدّدية والتنوّع داخل الوحدة. غير أنّ فشل السّياسات الشاملة والعقلانية وغياب العدالة التّي طبعت المسار السياسي في الدّول العربيّة، جعل من هذا التعدّد الإثني سببًا في التوتّرات والانقسامات.

التعدّد اللغوي والإثني: مخاطِر الفهم المغلوط!

إنّ الجنوح إلى الاستعمال السياسي للتنوّع، جعل من تحدّي التنمية في مفهومها الشّامل شيئًا مؤجّلًا أوقع دولنا في مراتبَ متأخّرةٍ من سُلّم التقدُّم وخوض المنافسات التّي باتت تطبع العالم المعاصِر. بذلك، تحوّلت التعدّدية اللّغوية والإثنية من كونها مصدرًا للتّنمية إلى بؤرٍ للانقسام والحروب الدّاخلية، انشغل بها الغرب لتوظيفها في استراتيجيّات تفتيت الدولة الوطنية وتمزيق الجغرافيا الترابيّة والسيّاسية والثقافية.

قد يبدو الانحياز اللّغوي والإثني شكليًّا في الكثير من المُجتمعات العربية، ولكنّه يحمل في مضمونه كلّ شرارات الانفجار متّى تهيّأت له الشروط الدّاخليّة المُحفّزة بشروطٍ خارجية.

تحرّكت الآلة الجهنّميّة للغرب بعد احتلال العراق وفق منطق طائفيّ وإثنيّ وكان الهدف تبديد الوحدة والهويّة

إذا تأمّلنا واقع الحال في مختلف المجتمعات العربيّة، نجدها تتحرّك فوق صفيحٍ ساخنٍ يزداد التهابه تدريجيًا في أفقٍ غير معلوم؛ وذلك منذ دعاوى الانفصال في جنوب اليمن الذي شهدت وحدته تصدّعًا بعد المطالبة بإقامة حكمٍ ذاتيّ، وانفجار الحركات المسلّحة في دارفور غرب السّودان عبر قبائل غير عربية، إلى الأكراد في العراق الذين خاضوا صراعًا مريرًا من أجل الحكم الذاتي، إلى لبنان الذي مثّلت فيه النّزاعات الطائفيّة ما يمثّله التعصّب العِرقي، إلى دعاوى الحركات الأمازيغية في شمال أفريقيا. كلّ هذه الوقائع مؤشّرات ناطقة إلى أنّ المجتمعات العربية محكومة بخلفيّات إثنية ولغويّة تُشكّل تاريخيًا وسياسيًا المدخل الرّئيس لجغرافيا عربية غير متوقّعة يتحكّم فيها الغرب وحده بتنسيقٍ مع إسرائيل.

بلوغًا لهذه الجغرافيا، تحرّكت الآلة الجهنّميّة للغرب منذ إعادة هيكلة الدّولة العراقية بعد احتلال العراق 2003 وفق منطق طائفيّ وإثنيّ (شيعي وسنيّ وكردي) قائم على المُحاصَصَة، إلى تمكين أكراد سوريا من طرف أميركا من تشكيل كِيانٍ مستقلٍ في شرق شمال سوريا، وتهديد العراق وسوريا المركزية بمشروع الانفصال. وحتّى تتسارع وتيرة الأحداث وحفز إرادة الأقلّيات في الدعوات إلى التمرّد وممارسة العنف، سارعت الآلة الغربية بعقلٍ إسرائيليّ من خلال الإعلام الذي يسيطر عليه بمختلف أنواعه، إلى وضع "أجندةٍ إعلاميةٍ" لحركات الحكم الذّاتي كما هو الشّأن مع "BBC" و"فرانس 24" و"RFI" وغيرها، والعمل على تسويق نماذج موحّدة للانفصال. مثل البرنامج الوثائقي "روج آفا" الذي قدّم التجربة السورية بوصفها نموذجًا ديموقراطيًا إنسانيًّا فضلًا عن المنصّات الرّقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، مثل التّرويج لحركة "ماك" الأمازيغية لاستقطاب عددٍ أكبر من المتعاطفين، والتّرويج عبر وسائل منصّات حقوقيّة لحرية الانتماءات المستقلّة.

سيادة الدّولة الوطنية لا تنفصل عن سيادة الكيان العربي الحرّ

يتمّ ذلك عبر التضخيم الإعلامي للنّزعات اللّغوية والإثنيّة تبريرًا للانفصام وإكسابه الشّرعية الديموقراطية وحقّ تقرير المصير. وإذا كان الهدف خلق كياناتٍ هشّةٍ تابعةٍ للغرب وتحقيق طموح تبديد الوحدة الوطنية والهويّة، فإنّ بلورة وعيٍ قوميّ لتجاوز آفة التشظّي والاندثار، تبدأ بحماية الدّولة والوطنية أوّلا، ومؤازرتها الاجتماعية والسياسية ثانيًا، كلّما استندت الدّولة إلى العدالة بمفهومها الشّامل، ومنها التوزيع العادل للثروة، وترسيخ مبدأ سيادة المؤسّسات عوض سيادة الأشخاص أو الجماعات.

إنّ سيادة الدّولة الوطنية لا تنفصل عن سيادة الكيان العربي الحرّ ومنه القضية الفلسطينية، التي تعتبرها إسرائيل البوْتقة التاريخيّة التي تطمح من خلالها إلى تحقيق مشروعها التوسّعي في البلاد العربية ومنطقة الشرق الأوسط.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن