تقدير موقف

حدود سوريا الهشّة!

آخر التطوّرات على الحدود بين سوريا ولبنان، تبادُل القصف بين قوات الجيش السوري وميليشيات "حزب الله" اللبناني وعصابات المخدّرات في منطقة القصير، التي كانت واحدةً من أهمّ قواعد "حزب الله" زمن تدخّل الأخير في الحرب السورية إلى جانب نظام الأسد. وتُـمثّل الاشتباكات الأخيرة خرقًا لمساعٍ سورية - لبنانية، لم تنجح بعد في ضبط حدود البلديْن، حيث تكرّرت الخروقات في الأشهر الأخيرة من قبل عصابات ومجموعات سورية - لبنانية مُعادية للنظام الجديد في دمشق، سعت إلى خلق مشاكل سياسيةٍ وأمنيةٍ للعهد الجديد، وتوتير العلاقات بين البلديْن.

حدود سوريا الهشّة!

حالة حدود سوريا مع لبنان جزءٌ من ظاهرة هشاشة حدود سوريا مع جوارها، والتي كرّستها سنوات الحرب الطويلة، وما رافقها من تطوّراتٍ وتفاعلاتٍ جعلتها خارج الضبط، وسائبةً بشكلٍ مقصودٍ في بعض الأحيان، كان من نتائجها عبورٌ واسعٌ لقواتٍ من إيران وروسيا وإسرائيل والولايات المتحدة وتركيا وغيرها إلى الأراضي السورية، وتسلّل ميليشيات وجماعات إرهابية وعصابات مُسلّحة، بينها ميليشيات لبنانية وميليشيات عراقية وميليشيات "داعش" وعصابات "فاغنر" الرّوسية وغيرها الكثير.

تعدّدت الذرائع في انتهاك الحدود والأساسي فيها الحفاظ على مصالح المتدخّلين وتعزيز دورهم في سوريا وحولها

لم تكن الظاهرة معزولةً عن سياسات نظام الأسد، بل كانت نتيجةً لهذه السياسات، التي دفعت الجيش والأمن لترك الحدود والذهاب الى حربٍ ضدّ السكان في المدن والقرى. وكان ترك الحدود أمام عبور الأطراف المختلفة، يدعم احتياجاتها الدعاويّة والسياسية، فإن دخلت عبْرها قوى تدعم النظام، فهو أمر مفيد للنظام ويلبّي حاجته المباشرة، وإن دخلت منها قوى معادية، فإنّه يعزّز أطروحات النّظام وادّعاءاته عن المؤامرة الدولية عليه، ومساعي قوى التطرّف والإرهاب القادمة إلى سوريا لإسقاط النظام وإقامة آخر متطرّف ومتشدّد!.

تعدّدت ذرائع المتدخّلين في سوريا في انتهاك الحدود، والأساسي فيها هو الحفاظ على مصالح المتدخّلين والسعي إلى تعزيز دورهم في الصراع السوري وحول سوريا. وكان بين أكثر الذّرائع شيوعًا مساعي روسيا وإيران للدفاع عن نظام الأسد، فيما كانت ذريعة تركيا الحفاظ على أمنِها القومي في مواجهة تمدّد الميليشيات الكردية في الشمال السوري، والتي تعتبرها تركيا مرتبطةً بحزب "العمال الكردستاني" بوصفه "كيانًا إرهابيًا"، وكانت ذريعة إسرائيل تعزيز أمنها وتأمين حدودها من الوجود الإيراني والجماعات الإسلامية المتطرّفة.

عند الحدود مع لبنان والعراق يوجد تأثير قوي وفعّال لقوى مسلّحة مرتبطة بإيران وبقايا نظام الأسد

وشهدت بعض الذرائع تبدّلات بعد إسقاط نظام الأسد أواخر العام 2024، وحلول العهد الجديد، إذ خرجت القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها من سوريا، وسقطت كلّ ذرائعها المعلنة، وتبدّل سند الوجود الروسي من الدفاع عن النّظام البائد إلى الحفاظ على قواعد موسكو البحرية في طرطوس والجويّة في "حميميم"، واستمرت تركيا وإسرائيل في التركيز على ذرائعهما، واستخدمتها الأخيرة في اعتداءاتها المتكرّرة على المواقع السورية، وتوسيع مساحة سيطرتها في جنوب البلاد.

لقد أدّى الانهيار الشامل لنظام الأسد وبخاصة قواه الأمنية والعسكرية، ومحدودية القوة العسكرية والأمنية للعهد الجديد، وإعلان الأخير نيّته في علاقات سلمية تنبذ الصراع مع الجوار، إلى استمرار ظاهرة الحدود الهشّة، وزاد الأمر في ظهور تفاصيل جديدة فيها، ولا سيما عند الحدود مع لبنان والعراق حيث يوجد تأثير قوي وفعّال لقوى سياسية ومسلّحة مؤثرة في النّظام الحاكم والمرتبطة بإيران من جهة وبقايا نظام الأسد، ممّا جعلها تتقدّم للمشاركة في الحملة الدعاوية ضدّ سوريا ونظامها الجديد. وزادت على ذلك مشاركات متعدّدة ومتنوّعة في سوريا وحولها هدفها إثارة الاضطرابات والمشاكل في أنحاء مختلفة من البلاد، ولا سيما في مناطق لها حساسيّات شديدة مثل الساحل السوري، ودعمت تحركات قوى وتشكيلات مناهضة لدمشق في مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا ومحافظتَي درعا والسويداء في الجنوب، وسجّلت تدخلات إيران والموالين لها في الأحداث السورية الاخيرة تزامنًا مباشرًا مع التدخلات الإسرائيلية.

الخروج من حفرة الأسد الكارثيّة لا يمكن أن يتمّ من دون ضبط سياسيّ واقتصاديّ وأمنيّ لحدود سوريا

كما هو واضح، فإنّ هشاشة الحدود تُشكّل سكّينًا في الخواصِر السورية، ليس في دعمِها الاتجاهات المناوِئة لوحدة سوريا ومستقبلها، وسعيها لإنهاء ظاهرة سلطات وقوى الأمر الواقع، إنّما في إضعاف قدرات البلاد في مواجهة تحدّيات الخروج من حفرة الأسد الكارثيّة التي تركها، والدخول في معركة إعادة إعمار سوريا وتقدّمها، التي لا يمكن أن تتمَّ من دون ضبطٍ سياسيّ واقتصاديّ وأمنيّ لحدود سوريا، وإحكام سيادتها على أرضها، وكلّها خطوات ضرورية تدفع العهد الجديد إلى تأمين الحدود السّورية مع الجوار من دون إبطاء، وإعطائها أهميةً خاصةً في برنامج العهد الجديد وحكومته.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن