مسجد السيدة نفيسة الذي يعود إنشاؤه إلى مرحلة الحكم الفاطمي لمصر، كان آخر ضحايا عمليات الترميم، والذي تمّ إدراجه ضمن مشروع "ترميم مساجد آل البيت"، وهو أحد المشروعات القومية لإحياء المناطق الدينية والتاريخية والأثرية في القاهرة الفاطمية، وفق ما أعلنت الحكومة في خطتها المعلنة.
طمس الهوية
يتحدث أثريون مصريون عن تغيير ملامح المسجد وطمس هويته التاريخية، فما بين نقل مقصورته الرئيسية لمسجد سيدي ابن عطا الله السكندري وإزالة اسم السيدة نفسية من على المقصورة الجديدة، إلى تغيير ألوان الجدران والإضاءات والتي مثّلت الطابع الروحاني للمسجد، تنوّعت الانتقادات التي كالها معماريون وباحثون في التراث الإسلامي للتجديدات التي كشف عنها النقاب.
"لم تترك في نفسي ذلك الأثر الروحاني والتاريخي الجميل الذي تعوّدت عليه في سنوات شبابي عند ولوجي إلى مثل هذه الأماكن"، بهذه الكلمات، اختتم الدكتور عاصم صفي الدين، مؤسس بيت المعمار الملقب بشيخ المعمارين، حديثه بعد زيارته للمسجد عقب عملية التطوير الأخيرة.
شيخ المعمارين حدّد عدة ملاحظات رصدها وأفقدت المكان هويته، فقال إنه وجد نفسه وسط زينات إضائية كهربائية متعدّدة ومنتشرة أزالت الضوء الأخضر الذي بات محببًا في المقامات والأضرحة.
"وجدت أبوابًا حديثة التصنيع، تخلو من الإحساس بالحرفة اليدوية، وتفقد الزائر الشعور بتراكم الزمن والاستعمال، كما وجدت زخارف هندسية منقولة عن التراث، بعضها أصلي وبعضها مستحدث، إلا أنّ المستحدث لم يكن في عظمة تواجده داخل الإطار المحدّد له عضويًا في الجسد المعماري كما الأقدم"، يضيف شيخ المعماريين في رسالة بعث بها إلى المسؤولين عن مشروع تطوير مساجد آل البيت ونشرها على صفحته بموقع فيسبوك.
"وجدت كتابات خطية يدوية بخط الثلث العريق، بعضها في مواضعها الأصلية، وبعضها في مواضع مستحدثة، لكن يبدو عليها أنها مستنسخة بالحاسب الآلي، ولا أثر فيها للعمل اليدوي لأصحابها الأصليين من عظماء الخطّاطين المصريين والأتراك والسوريين.. وللأسف لاحظت عدم وجود توقيعاتهم التي كانت بالأعمال الأصلية، بالإضافة إلى أنها داخل إطارات غير مناسبة".
وتحدّث صفي الدين أيضًا عن الأرضيات الرخامية اللامعة الفخمة التي وضعت في أرضية المسجد، لكنه أكد أنها "بحداثتها أفقدت الزائر الانشغال بالمكان".
المقابر التاريخية
بجوار مسجد السيدة نفيسة، واصلت المعاول هدم المقابر تاريخية التي يعود بعضها إلى آلاف السنين، ووصلت الآلات إلى مقابر الإمام الشافعي.
لم ينتهِ الاجتماع الذي كان قد عقده الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لبحث تنفيذ خطة تطوير القاهرة التاريخية، حتى بدأت عمليات الهدم في المقابر مرّة أخرى.
وتداول أثريون ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صورًا لمقبرة علي باشا فهمي كبير ياوران الملك فؤاد الأول، بعد أن وضع عليها رقم "845" تمهيدًا لهدمها وهو ما أثار حالة غضب عامة.
تُظهر الصور عظمة التصميم والبناء والزخارف. لم تكن مقبرة علي باشا فهمي والمقابر المجاورة، سوى محطة من محطات عديدة طالتها عمليات الهدم خلال الشهور الماضية.
أزيلت مقابر عدة منها مقبرة عبد الحميد باشا صادق (رئيس البرلمان المصري من 1902 حتى 1909 في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني) ومقبرة عبدالله أفندي زهدي (من أشهر الخطاطين في تاريخ مصر وهو كاتب المخطوطات على المسجد النبوي وسبيل أم عباس ومسجد الرفاعي، وغيرها)، ومدفن حسن أفندي الليثي (رسام كسوة الكعبة المعظمة)، ومدفن عشق بريان معتوقة الخديوي إسماعيل.
كما طالت عمليات الهدم أيضًا مقابر لشخصيات أثّرت في تاريخ مصر الحديث، منهم يوسف صديق أحد قادة ثورة 1952، والشيخ محمد رفعت الذي عرف بقيثارة السماء، والشاعر حافظ إبراهيم الذي عرف بـ«شاعر النيل» والأديب يحيى حقي، والشاعر محمود سامي البارودي وزير الحربية المصري ورفيق أحمد باشا عرابي والذي لقب برب السيف والقلم، وتحت ضغوط الرأي العام تراجعت السلطات عن هدم مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين، بعد تهديد أسرته بنقل رفاته إلى خارج البلاد.
القضاء في مواجهة الهدم
أكاديميون مهتمون بالحافظ على التراث العمراني، لجأوا للقضاء لوقف الهدم. الباحثة في التراث سالي سليمان إحدى مقيمي الدعوى القضائية قالت لـ"عروبة 22"، إنهم ينتظرون تقرير هيئة المفوضين بشأن دعواهم، وإن كان على الحكومة المصرية انتظار قرار القضاء.
"شيء حزين ومرعب أن يخترق البلدوزر مقابر تعود إلى 1400 عام ومسجلة في قائمة اليونسكو، طرقنا كل الأبواب، ناشدنا الرئيس ثم لجأنا للقضاء، وخرجنا في وسائل الإعلام نحذر من الكارثة، ولا حياة لمن تنادي"، بهذه الكلمات عبّرت سليمان عن حزنها لما تشهده مقابر القاهرة التاريخية من عمليات تشويه متعمّد، ولفتت إلى أن اللجنة التي شكّلها السيسي لدراسة الأمر، انتهت إلى وجود حلول بديلة لهدم المقابر، مؤكدة أنّ الأمر سيؤثر على مكانة مصر الثقافية.
"كان على الدولة التسويق لمقابر القاهرة التاريخية كأثر سياحي"، بحسب سليمان، مضيفةً: "الأهرام مقابر ووادي الملوك مقابر، ومقابر القاهرة التاريخية هي جزء لا يتجزّأ من هوية وذاكرة مصر توثّق كيف كان يدفن المصريون موتاهم على مدار عقود".
الدعوى قضائية التي أقامها المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية –مركز حقوقي مستقل- أمام محكمة القضاء الإداري، نيابة عن سليمان وآخرين، ضد رئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، طالبت بوقف تنفيذ القرار السلبي بالامتناع عن توفير الحماية اللازمة للمقابر والمباني الأثرية ذات التراث المعماري المتميّز في منطقة جبانات القاهرة التاريخية وتحديد حرم لهذه الآثار، بما ترتب على ذلك من آثار، أخصها وقف أعمال الإزالة والهدم لجميع هذه المقابر والمباني.
ولفت المركز في الدعوى إلى أنه في أواخر القرن التاسع عشر تم تخصيصها لدفن كبار موظفي وأعيان الدولة، وأن تلك المنطقة خصصت منذ مئات السنين ليوارى فيها الموتى الثرى، لا سيما من رجالات ورموز الفكر والثقافة والسياسة والدين والفن وأفراد العائلة المالكة، وتضمّ بين جنبات مقابرها رفات مجموعة كبيرة من عظماء النضال الوطني والفكر والتاريخ المصريين.
وزاد المركز في دعواه: تحوي المنطقة عددًا كبيرًا من المقابر ذات الطراز المعماري المتميّز، منها مدافن أمير الشعراء أحمد شوقي، ومدفن السيدة أم كلثوم، وحوش الملكة فريدة، ومدفن محمود سامي البارودي، وسبيل ومقام الإمام جلال الدين السيوطي، ومدفن الأمير فؤاد، وأسمهان وفريد الأطرش.
شواهد مصر
ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه لجأ باحثون في التاريخ الإسلامي، إلى تدشين مبادرة تحت اسم "شواهد مصر"، لإنقاذ الآثار غير المسجلة في حيّز منطقة تنفيذ مشروع توسعة طريق صلاح سالم.
الطبيب مصطفى صادق، أحد أعضاء المجموعة يقول: "دخلنا أحد الأحواش في منطقة مقابر الإمام الشافعي الشهيرة، وكان المكان مليئًا بالركام وقطع الحجارة المتناثرة هنا وهناك نظرًا لأعمال الإزالة التي تشهدها المنطقة، ولفت انتباهنا قطعة مختلفة موجودة داخل جزء من جدار قديم ملقى جانبًا".
ويضيف: "القطعة التي عثرنا عليها هي شاهدة مقبرة لسيدة توفيت عام 229 أو 221 هجريًا، أي منذ 1179 عامًا على الأقل، ومكتوب عليها بالخط الكوفي غير المنقوط، اسم صاحبة المقبرة".
وتأتي عمليات الإزالة التي طالت مقابر تاريخية في وسط القاهرة، ضمن مخطط القاهرة 2050 الذي أطلقه رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، حين كان رئيسًا لهيئة تطوير المجتمعات العمرانية عام 2009.
وبدأت أزمة هدم المقابر التاريخية في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وتم الكشف عن مذكرة بشأن المدافن التي وقعت في نطاق الإزالة في مشروع تطوير محور صلاح سالم من محور جيهان السادات حتى حديقة الفسطاط بامتداد 6 كيلومترات، تتخللها جبانات المجاورين وباب الوزير وسيدي جلال والسيدة نفيسة والطحاوية والإمام الشافعي وسيدي عمر.
وفي عام 2020 أثير جدل بشأن عدد من المقابر في منطقة منشية ناصر في قلب القاهرة التاريخية، يُزعم أنها "جبانة المماليك" وتعود لنحو 5 قرون من أجل إنشاء جسر. وتعد مقابر المماليك أقدم جبانة إسلامية في مصر، وتحتل موقعا متميزا وسط العاصمة.
حتى الآن لا يبدو أن المشروعات التي بدأتها الحكومة المصرية بزعم التطوير تارة والترميم تارة آخرى، ستتوقف رغم ضغوط الرأي العام الثائر على تلك المشروعات، وفي وقت ينتظر فيها أثريون وأعضاء بجمعيات مهتمة بالتراث كلمة القضاء، يراهن البعض على تدخل الرئيس المصري واستجابته للاستغاثات المتكررة ووقف المخطط أو إسناده إلى أهله من أصحاب الاختصاص.