اقتصاد ومال

الترتيبان الحقيقي والزّائف لاقتصاد مصر عربيًا وعالميًا

استخدمتُ مؤشّر النّاتج المحلي الإجمالي المحسوب بالدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية منذ تسعينيّات القرن الماضي، باعتباره الأقرب للحقيقة والواقع، إلى جانب عرض قيمة النّاتج المحسوب بالدولار وفقًا لسعر الصرف والبعيد عن الحقيقة في غالب الأحيان بسبب ابتعاد أسعار صرف العملات عن قيمتها الحقيقية أو قدرتها الشرائية. وذلك الابتعاد ناتجٌ عن الضغوط التي تتعرّض لها عملات بعض الدول نتيجة عجز الموازين الخارجية لبلدانها، وضغوط الرّأسمالية العالمية ووكيليْها أي صندوق النقد والبنك الدولييْن على الدول المُتعثّرة ماليًا والمُتضخّمة الديون لتخفيض عملاتها عن قيمتها الحقيقية، تحت دعاوى تشجيع الصادرات والسياحة الداخلَة والاستثمارات الأجنبية.

الترتيبان الحقيقي والزّائف لاقتصاد مصر عربيًا وعالميًا

تبدو تلك الدعاوى منطقيةً نظريًا شرط توفّر الظروف الموضوعية لفعاليتها، فتشجيع الصادرات يفترض وجود إنتاجٍ قابلٍ للتصدير، فإذا لم يوجد هذا الإنتاج يصبح تخفيض سعر الصّرف مجرّد خسارةٍ صافيةٍ وكبيرةٍ وآلية لزيادة التضخّم عبر رفع أسعار السّلع المُستوردة عند تقييمها بالعملة المحلية. كما يصبح آليةً لتخفيض القيمة الدولية للنّاتج، والأهم من ذلك هو أنه يزيد قدرة الدولار والعملات الرئيسية على شراء السّلع والأصول والخدمات في السوق المصريّة.

ترتيب متأخر وزائف لاقتصاد مصر وفقًا لسعر الصرف

بلغت قيمة النّاتج المحلي الإجمالي المصري المحسوب بالدولار وفقًا لسعر الصرف السائد 383 مليار دولار عام 2024. ووفقًا لتلك القيمة جاء في المرتبة الثالثة عربيًا بعد السعودية التي بلغت قيمة ناتجها 1085 مليار دولار، والإمارات التي بلغت قيمة ناتجها 537 مليار دولار. كما جاء في المرتبة الـ43 عالميًا في العام المذكور، وتسبقه دول نامية مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا والمكسيك وتركيا وفيتنام وإيران وجنوب أفريقيا والفيليبين وبنغلاديش، فضلًا عن الولايات المتحدة والصين وروسيا واليابان وغالبيّة الدول الأوروبية.

سعر الصّرف السائد لا علاقة له بقيمة الجنيه مقابل الدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية

وبلغ متوسط نصيب الفرد من النّاتج المحلي الإجمالي في مصر، المحسوب بالدولار وفقًا لسعر الصّرف نحو 3570 دولارًا في العام المذكور، وجاء في المرتبة 15 بين الدول العربية، وفي الترتيب 135 بين دول العالم عمومًا بما فيها الدول العربية.

وهذا الترتيب لأكبر دولة عربية على الصعيديْن العربي والعالمي، صادمٌ، وهو بالفعل ترتيبٌ مُزيّفٌ لا يعبّر عن الحجم الحقيقي للنّاتج المحلي الإجمالي المصري ومتوسط نصيب الفرد منه، مقارنةً بنظائره العربية والعالمية. ويكمن السّبب الرئيسي في ذلك في أنّ سعر الصّرف السائد الذي بلغ 50 جنيهًا لكلّ دولار في العام المذكور لا علاقة له بقيمة الجنيه مقابل الدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية والتي بلغت نحو 6.2 جنيهات لكلّ دولار وفقًا لصندوق النقد الدولي في قاعدة بيانات تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي. أمّا لماذا انهار سعر الصرف الرّسمي إلى مستوى 50 جنيهًا لكلّ دولار فهذا أمر آخر مرتبط بعجز الموازين الخارجية وتضخّم الديون الخارجية وبخاصةٍ قصيرة الأجل، وضغوط صندوق النقد الدولي لتخفيض سعر صرف الجنيه كشرطٍ لإقراض مصر.   

مصر في الصدارة عربيًا في حجم النّاتج الحقيقي وتلي دول الخليج في نصيب الفرد منه

بلغت قيمة النّاتج المحلي الإجمالي المصري المحسوب بالدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية نحو 2227 مليار دولار في عام 2024 بحسب قاعدة بيانات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصّادر عن صندوق النقد الدولي في أبريل/نيسان 2025.  ووفقًا لتلك القيمة تصدّرت مصر الدول العربية، وتلتها السعودية بناتجٍ بلغ 2109 مليار دولار، والإمارات بناتجٍ قيمته 848 مليار دولار، والجزائر بناتجٍ قيمته 824 مليار دولار، والعراق بناتجٍ قيمته 683 مليار دولار، والمغرب بناتجٍ قيمته 398 مليار دولار، وقطر بناتجٍ قيمته 360 مليار دولار، والكويت بناتجٍ قيمته 249 مليار دولار، وعُمان بناتجٍ قيمته 220 مليار دولار، وتونس بناتجٍ قيمته 177 مليار دولار، والأردن بناتجٍ قيمته 125 مليار دولار.

وبلغ متوسط نصيب الفرد من النّاتج المحلّي الإجمالي المصري المحسوب بالدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية نحو 20750 دولارًا عام 2024، متفوّقًا على نظائره في كلّ الدول العربية باستثناء دول الخليج الستّ المصدّرة للنفط والغاز. وعلى سبيل المثال، بلغ متوسط نصيب الفرد من الدخل المحسوب بهذه الطريقة نحو 17670، و15385، و14894، و14304، و11799، و10981، و10659 دولارًا في كلّ من الجزائر، والعراق، وليبيا، وتونس، ولبنان، والأردن، والمغرب بالترتيب في عام 2024.

على الصعيد الدّولي جاء النّاتج المحلي الإجمالي المصري في الترتيب 17 حيث سبقته الدول الرّأسمالية السبع الكبرى والصين والهند وروسيا والبرازيل وإندونيسيا وتركيا والمكسيك وكوريا الجنوبية وإسبانيا. أمّا متوسط نصيب الفرد من الدخل فجاء في الترتيب 92 بين دول العالم بما فيها الدول العربية.

لماذا لا يشعر المصريون بهذا المستوى من الدخل؟

يُعتبر متوسط نصيب الفرد من الدخل وفقًا لتعادل القوى الشرائية، هو الدخل الحقيقي الذي يتجسّد في القدرة على شراء السلع والخدمات، وهو في مصر أعلى من كلّ الدول العربية باستثناء دول الخليج المُصدّرة للنفط والغاز، وفقًا لبيانات "الصندوق". لكنّ انتشار البطالة وغياب العدالة في توزيع الدخل، وضعف آليات إعادة توزيعه من خلال الضرائب والدعم والتحويلات، تؤدّي إلى رفع معدّلات الفقر التي وصلت إلى 35.7% من السكان عام 2023 حسب مستشارة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. كما تؤدّي إلى ضعف حصّة الفقراء ومعهم غالبية الطبقة الوسطى من الناتج المحلي الإجمالي.

مصر بحاجة إلى سياسات اقتصادية كلّية ومالية حتى يتوزّع الناتج المحلي الإجمالي بصورة أكثر عدلًا

ويشير تقرير عدم المساواة في العالم لعام 2022 (WORLD INEQUALITY REPORT)، إلى أن حصّة أغنى 10% من السكّان من الدخل القومي المصري، تقع في الفئة التي تتراوح ما بين 49% و83% من ذلك الدخل. أما حصّة أدنى 50% دخلًا من السكان فهي تتراوح ما بين 14% و16% من الدخل القومي. وأيًّا كانت الأسباب، فإنّ مصر بحاجةٍ إلى سياساتٍ اقتصاديةٍ كلّيةٍ وماليةٍ لتحسين توزيع الدخل عبر نُظم التشغيل والأجور والضرائب والدعم والتحويلات حتّى يتوزّع النّاتج المحلي الإجمالي بصورةٍ أكثر عدلًا وإنصافًا لاستيلاد العدالة الاجتماعية الغائبة. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن