وجهات نظر

جيل "بيتا" وحقبة المواجهة بين الذوات الرقمية ومنظومة الأبويات

في منتصف التسعينيات، تأسّس محرّك البحث "جوجل" الذي مثّل نقلة نوعية فارقة في حياة البشرية على جميع المستويات، خاصة بالنسبة لفئة الشباب الذين باتوا يمثّلون الكتلة الحيوية الغالبة لأيّ جسم اجتماعي عل ظهر الكوكب حيث تصل إلى 70% - في المتوسّط - من إجماليّ الكتلة السكّانية.

جيل

تدفعنا هذه النقلة من التأثير والفاعلية إلى القول بأنّ عالم ما بعد العام 1995 قد صار مختلفًا بالكلية عمّا قبله، ومن ثم أصبح من الممكن لنا أن نقول زمن/عصر ما قبل "جوجل"، وزمن/عصر ما بعد "جوجل". وكان لهذا الأمر أثره البالغ على الكتلة الشبابية في أنحاء الكوكب بفعل التدفق المعلوماتي والمعرفي غير المحدود والمتاح دومًا دون قيود لشباب الكوكب على اختلافاتهم من جانب، والأتمتة المزمع أن تغزو كل مناحي الحياة من جانب آخر.

إذن، أسّست الطفرة التي لحقت بالتقنيات الرقمية لعالم ما بعد "جوجل" ولجيل جديد يختلف جذريًا عن الأجيال السابقة له، هو الجيل الذي أطلق عليه جيل "زد"، الجيل الذي ولد بعد منتصف التسعينيات. ونظرًا لأنّ التقدّم التقني في مجال الرقميات أخذ يتطوّر تطوّرًا متضاعفًا - "طفريًا" - فإنّ التحوّلات الجيلية أصبحت مطّردة. ومن ثمّ رأينا جيلًا جديدًا يولد مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة في 2010 وهو الجيل الذي حمل اسم أوّل حرف من الحروف الألفبائية اليونانية/الأبجدية الإغريقية، أي "جيل ألفا". وأنّ هناك جيلًا جديدًا قيد التبلور سيولد في 2024 سيطلق عليه "جيل بيتا" (الحرف التالي لألفا في الألفبائية) أو جيل الذكاء الاصطناعي.

أجيال ما بعد "جوجل" كتلة مجتمعية تمارس ما هو سياسي ومدني وثقافي واجتماعي عبر المجال الرقمي بحرّية تامة

ويتّضح مما سبق، أنّ الدورة الجيلية أصبحت تقصر مع التقدّم التقني الرقمي "الطفري"، فما أن يبلغ المولود العاشرة حتى تبدأ موجة مواليد جديدة تنتمي لموجة جيلية تحمل ملامح مغايرة للجيل السابق لها.

ولعلّ أهم ما يميّز أجيال ما بعد "جوجل": "زد" و"ألفا" وفي القريب العاجل "بيتا" هو السعي لإحداث تغيير هائل/ضخم سواء بالأفعال المباشرة أو بالضغط في المجالات السياسية، والثقافية، والاجتماعية والاقتصادية بهدف تأسيس نموذج حياتي مختلف "Dissimilar Paradigm"؛ ولفهم هذا السلوك لا بدّ من رصد ما طرأ على أجيال ما بعد "جوجل" من سمات جديدة.

وفي هذا الإطار يمكن رصد خمس سمات كما يلي: أولًا: الانقطاع الجيلي المطلق، ثانيًا: فكّ الارتباط بمرجعيات التنشئة التقليدية/الوسائط الطبيعية، ثالثًا: الدأب على خلق عوالم مستقلة، رابعًا: التطلّع الدائم إلى الأرقى، خامسًا: التوحّد التام بالتقنيات الرقمية التواصلية المختلفة باعتبارها "العائلة الكفيل" لأجيال ما بعد "جوجل"؛ ويتّضح من السمات المرصودة بأنها ذات طابع راديكالي.

وفي ضوء السمات الجديدة المتبلورة: الراديكالية ــ المغايرة؛ انتظمت أجيال ما بعد "جوجل" ككتلة مجتمعية تمارس ما هو سياسي ومدني وثقافي واجتماعي عبر المجال الرقمي بحرّية تامة لا تخضع لأي قيود أو حدود أو شروط كالتي توضع في المجال العام المادي. وتنتظم في تقاطعات شبكية تستوعب الشباب من خلفيات طبقية وسياسية وثقافية وإثنية متنوّعة حيث لا تشترط إلا الانتماء لزمن ما بعد "جوجل" أو للزمن الرقمي. ما يؤمّن لهم ممارسة "مواطنية رقمية شبكية" مؤسّسة على أمرين:

أولًا: تسليح الشباب بقدرات معرفية لا نهائية وبجرأة سلوكية تعصمهم من أن يكونوا مجرّد أبدان ما قبل رقمية تابعة وملحقة ونمطية وتقليدية بل "ذوات رقمية حرة ومستقلة ومبدعة وراديكالية"، وثانيًا: تشكيل تضامن جيلي مدافع عن جيلهم مقابل سطوة "الأبويات" الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية، والثقافية؛ (وأتصوّر أنه يمكن توصيف العناصر الشبابية لأجيال ما بعد جوجل في هذه الحالة بالمواطنين الرقميين الصغار Young Digital Citizens أو بمواطني الشبكة الصغار انطلاقًا مما ورد في الأدبيات: بالمواطن الرقمي Digital Citizen؛ وبمواطن الشبكة Netizen؛ وهما مصطلحان عرفنا بهما القارئ العربي مبكرًا في كتاباتنا عن المواطنة)، ويشار هنا إلى أنّ هذا التحوّل الجيلي يتجاوز حدود السياقات المجتمعية المتقدّمة إلى السياقات الأدنى في درجات التقدّم داخل الدولة الواحدة، وبين الدول، بفعل التأثيرات العابرة للحدود لشبكة التواصل الاجتماعي بتقنياتها الرقمية المتعدّدة والمتجدّدة دومًا.

ولكن مع انطلاقة الثورة الصناعية الرابعة والتي تقوم على "الأتمتة" التامة وأنظمة الذكاء الاصطناعي، فإن المراقبين يتوقعون أنّ جيل "بيتا" (الجيل التالي لجيل ألفا) الذي سيولد بحلول 2024، كما أشرنا آنفًا، سيولد حاملًا عالمًا جديدًا سيعمل على "اختراع فاعلية مجتمعية جديدة" "Inventing New Societal Activism"؛ نظرًا لما يمتلك من قدرات متفرّدة، وجرأة على القطيعة مع كل ما هو قديم، وإيمان يقيني بضرورة التجديد الدائم والشامل، وتوحّد تام بالأتمتة وبأنظمة الذكاء الاصطناعي، ما سيجعله بمثابة "زلزال شبابي" Youthquake؛ (إذا ما استعرنا عنوان الكتاب الذي حمل الاسم نفسه وصدر في 2019 شارحًا التحوّلات الجيلية في بريطانيا وقد عرضنا له في حينه تفصيلًا).

ماذا أعددنا في منطقتنا العربية للمواجهة التاريخية الحاسمة المرتقبة؟

وسيترتّب على ما سبق عدد من التغييرات الجذرية في بُنى كل من:

أولًا، منظومات التنشئة: الأسرية والتربوية والدينية والمدنية/السياسية والإعلامية والثقافية.

ثانيًا، المنظومات العلائقية: العلاقة بين الأجيال، العلاقة بين الأنظمة السياسية والمواطنين، والعلاقة بين الجنسين، والعلاقة بين الثقافات والحضارات، والعلاقة بين الطبقات، كذلك علاقات العمل، وعلاقات التواصل الإنسانية العاطفية المتنوعة.. إلخ.

ثالثًا، منظومات الإنتاج: المعرفي والإبداعي والمادي. وبالأخير، ستسفر التغييرات عن مواجهة لا مفرّ منها بين جيل بيتا/جيل الذكاء الاصطناعي وما يتضمّن من ذوات رقمية حرّة ومستقلة ومبدعة وراديكالية، وبين منظومة الأبويات/الشموليات المختلفة القائمة.

حتمًا، إنها المواجهة المرتقبة في العقدين القادمين والتي بدأت إرهاصاتها مع جيل "ألفا". وسؤالنا ماذا أعددنا في منطقتنا العربية لهذه المواجهة التاريخية الحاسمة؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن