تقدير موقف

"سباق الأقاليم".. بين سوريا الجديدة والعراق الجديد!

لم تزلْ تداعيات زلزال سوريا الذي أنهى حقبة حكم آل الأسد من جهة، وأخرج إيران وأذرعها منها من جهةٍ ثانية، ودفع حركات الإسلام الجهادي الى كرسي دمشق بوصفها العدو الدّينولوجي للطرفيْن من جهةٍ ثالثة، لم تزل تتوالى فصولها، بما يشبه البراكين التي ما إن تخمد نيرانها، حتى تنقذف حمم تداعياتها من جديد، لتعيد تشكيل تضاريس المشهد السياسي بأبعاده الاجتماعية والطائفية والاقتصادية، فضلًا عن التموْضعات الجيوستراتيجية التي خلّفها زلزال سوريا التي كانت واسطة العقد لـ"محور المقاومة" الذي يمرّ بأكثر لحظات عمره حراجةً ووجوديةً، على أكثر من صعيد وفي غالبية الساحات.

في العراق، الذي لا يزال يعاني من قرار بول بريمر حلّ الجيش والمؤسّسات والإدارات الرسمية المختلفة ليُعاد بناؤها على أسسٍ جديدةٍ لم تُنتج جيشًا أو دولةً بالمعنى العِلمي للكلمة، توشك الرياح الساخنة أن تلفح "العراق الجديد" بُعيْد الانتهاء من الحرب ضدّ اليمن والحوثيين، وربطًا بما ستفرزه المفاوضات الأميركية - الإيرانية عندما تضع أحمالها.

وخلال الأزمة السورية، تمّ تفجير جميع التناقضات المجتمعية والعِرقية والإثنية والطائفية، التي انخرطت كلّ فئة من خلفيتها في مواجهة دامية مع النظام السوري، ما أدى الى سقوطه وتفكيكه بالطريقة التي أرادها "المخرج" الذي كانت له رؤيته الشاملة تجاه إعادة تركيب "سوريا الجديدة" ومؤسّساتها المختلفة، وِفق مبدأ الأقاليم المُحاكي لـ"قانون الكونغرس لتقسيم العراق عام 2007"، ما أدّى الى بروز التباينات العميقة بين المكوّنات العِرقية والمذهبية والقومية، وبين القيادة السورية الجديدة.

لغات سياسية جديدة ملأت فراغ وهشاشة اللغة السياسية الواحدة في سوريا

هذه التباينات التي تمسّ صورة سوريا السابقة وموقعها، وتتجاوز بكثير المطالب بإسقاط النظام وإصلاحه، إنما تنال من مكانة سوريا كدولةٍ محوريةٍ في المنطقة كانت لاعبًا إقليميًا بارزًا، وباتت ملعبًا لقوى إقليميةٍ ودوليةٍ بارزة. وبدا من سياقات التطوّرات والأدبيات السياسية الجديدة الخاصّة بكل مكوّن ومطالبه، أنّ هناك لغاتٍ سياسيةً جديدةً ملأت فراغ وهشاشة اللغة السياسية الواحدة.

ويُعتبر انعقاد "مؤتمر وحدة الصفّ والموقف الكردي" الذي عُقِدَ في القامشلي بمثابة نقطة تحوّل مفصلية في حياة الأكراد السياسية ونضالهم باتجاه بناء الدولة الكردية. وللدّلالة على أهمّية الحدث الكردي جاءت مشاركة الأحزاب الكردية العراقية والتركية، إضافة للمبعوث الأميركي سكوت بولز، ووفدٍ من قيادة التحالف الدولي ضدّ "داعش".

وإلى الشكل الذي حكَم المؤتمر وأدبياته، فقد جاء بيانه الختامي معبّرًا عمّا يطلبه الأكراد من ضمان الدستور لحقوق المكوّنات السورية كافّة، إلى ضرورة أن يكون النظام السياسي برلمانيًا، ويعتمد التعدّدية السياسية، وأن تكون سوريا دولةً لامركزيةً مع توزيعٍ عادلٍ للسلطة والثروة، وحيادية الدولة تجاه الأديان، وأن يُعَبِّرَ اسم الدولة وعلمها ونشيدها عن التعدّد القومي والثقافي للمجتمع السوري، مع ما يعنيه هذا البند من تغيير جوهري في بنية وشكل الدولة السورية من وجهة النّظر الكردية، ما يعني تغييرًا للعلَم، وشطبًا للهوية العربية من الاسم الرّسمي للدولة، وأن تتضمّن بطاقات الهوية وجوازات السفر اللغة الكردية، التي طالب المؤتمر باعتمادها لغةً رسميةً إلى جانب اللغة العربية.

محاولات إسرائيلية خبيثة لتفكيك بنية المجتمع السوري استكمالًا لعملية تفكيك الدولة السورية وجغرافيتها

وإذ سارعت الرئاسة السورية للتعبير عن "رفضها بشكلٍ واضحٍ أي محاولاتٍ لفرض واقعٍ تقسيمي أو إنشاء كياناتٍ منفصلةٍ تحت مسميّات الفيدرالية أو الإدارة الذّاتية من دون توافق وطني شامل"، فقد أكدت على أنّ "وحدة سوريا أرضًا وشعبًا خط أحمر، وأي تجاوز لذلك يُعدّ خروجًا عن الصف الوطني ومساسًا بهوية سوريا الجامعة".

بيان الرئاسة السورية الغني عن الشرح والتمحيص، يُقرّ بوضوح بأنّ المساس بوحدة سوريا وهويتها جارٍ على قدمٍ وساق، وبأنّ خطوة الأكراد المتقدّمة ربما تجد لها أصداء في السويداء حيث رفع بعض مرجعيّات المكوّن الدرزي مطلبهم في المشاركة في الدولة من "راسها إلى ساسها"، من دون التقليل من خطورة التدخل الإسرائيلي تحت شعار حماية الأقليات، مع ما يعنيه ذلك من محاولاتٍ إسرائيليةٍ خبيثةٍ لتفكيك بنية المجتمع السوري، كاستكمالٍ مُمنهجٍ لعملية تفكيك الدولة السورية وجغرافيتها.

وتوازيًا مع إعلان البيان الختامي للمؤتمر الكردي، كان لافتًا إنزال مصطلح "إقليم الساحل السوري" في سوق التداول الإعلامي والسياسي. إنّه "الإقليم" الذي رفع لواءه "ثنائي مالي، عسكري" مكوّن من رجل المال والأعمال رامي مخلوف واللواء سهيل الحسن المعروف بـ"النمر"، وهو الثنائي الذي كان يُشكّل ذراعَيْ بشّار الأسد المالي والعسكري.

المنطقة حُبلى في ضوء المُناخات غير السلبيّة عن المفاوضات النووية وسعي نتنياهو إلى تفخيخها وتفجيرها

وفي بيان أصدره مخلوف، وتحدث فيه عن "ظلم النّظام السابق وعن ذبح النظام الجديد"، بدا "إقليم الساحل السوري" وكأنّه يدبّ على الأرض. وتحدّث مخلوف عن تشكيل فرق عسكرية عدّة من القوّات الخاصة بتعداد مائةٍ وخمسين ألف جندي، ومثلها احتياطيًا من القوات الشعبية. وعن تشكيل لجان شعبية مكوّنة من مليون شخص. ولإعطاء "الإقليم" بُعده الدولي أشار مخلوف إلى دور روسيا المحوري تجاه الساحل السوري، بخاصة بعد وجود تقارير تتحدّث عن توقيع القيادة الروسية في حميميم وطرطوس عقودًا مع ضباط من الجيش السابق من دون معرفة الأسباب والدوافع، مع التنويه إلى حراك عسكري روسي ميداني مستجدّ في اللاذقية وطرطوس وجبلة، وعن تصدّي المروحيات والدفاعات الروسية لمُسيّرات تستهدف القواعد الروسية.

ما تقدّم يَشي بأنّ المنطقة حُبلى، خصوصًا في ضوء المُناخات غير السلبيّة عن المفاوضات النووية الأميركية - الايرانية، وسعي بنيامين نتنياهو بكلّ الطرق إلى محاولات تفخيخها وتفجيرها، وفق رفض دونالد ترامب محاولات نتنياهو جرّه إليها. ولعلّ الغارة الاسرائيلية الأخيرة على الضاحية الجنوبية لبيروت تأتي في هذا السياق الهادف إلى استدراج "حزب الله" إلى حربٍ جديدةٍ أو تكثيف الضغوط عليه لنزع سلاحه بالقوّة، بينما لا تزال "حماس" من جهتها ترفض نزع سلاحها ضمن شروط صفقة التفاوض على وقف إطلاق النار في غزّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن