بدأت احتفالات سلطة دمشق ومؤيديها باستعادة عملية ردع العدوان يوماً بيوم، منذ بدايتها في 27 تشرين الثاني 2024، وصولاً إلى السيطرة على العاصمة دمشق في صباح الثامن من كانون الأول، مع إعلان فرار رأس النظام المخلوع بشار الأسد. من الواضح أن إعلام السلطة، ووسائل إعلام عربية مؤيدة لها، قد استعدا جيداً لهذه المناسبة لصناعة مناخ يوحي برسوخ السلطة وشعبيتها وشرعيتها الداخلية والخارجية.
فتم تصدير زيارة مجلس الأمن الدولي بكامل أعضائه كما لو كان مباركة للسلطة وتشجيعاً لها للمضي قدماً، ووقتت قناة "العربية" تسريباتها الخاصة بجولة بشار الأسد رفقة "مستشارته" لونا الشبل في الغوطة الشرقية، بما تضمنتها من كلام مخجل، مع الذكرى السنوية، لتذكير السوريين بحجم الإنجاز الذي تحقق بالتخلص من نظام التفاهة الأسدي، ليترك للمعلقين إجراء المقارنة المضمرة مع "رئيس المرحلة الانتقالية" وهي لصالح الثاني بكل المقاييس. وربما كان من طرائف أخبار وسائل الإعلام هذه خبر عن "أكبر اجتماع شعبي في مدينة القرداحة منذ سقوط النظام المخلوع"! للاحتفال بالذكرى السنوية. فبغض النظر عن علاقة أهالي القرداحة مع النظام المخلوع، من الصعب أن يقتنع المرء بأنهم راضون بالحكام الجدد، وبخاصة بعد مجازر الساحل في شهر آذار الفائت، والانتهاكات المتفرقة التي لم تتوقف إلى اليوم، دع عنك أن يحتفلوا!
ويركز مؤيدو السلطة، في جردة الحساب لعام من حكمها، على ما يصفونه بالإنجازات، ويحتل مركز الثقل فيها أمران، الأول "تحرير سوريا" من نظام الأسد، والثاني "الإنجازات الدبلوماسية الباهرة" بالانفتاح على المجتمع الدولي والنجاح في "إقناعه" برفع العقوبات، كما في إسقاط صفة الإرهاب عن هيئة تحرير الشام وأبرز قادتها. "التحرير" موضوع خلافي بين السوريين. لا بد من الاعتراف أن هناك فئة من السوريين تطابق بين سقوط النظام و"التحرير" المنسوب إلى تحالف ردع العدوان بقيادة "هيئة تحرير الشام" وأحمد الشرع بالذات.
هذه الفئة متمسكة بالسلطة القائمة مدفوعة غالباً بالخوف من العودة المحتملة لنظام الأسد. ومن أجلهم نشرت "رويترز" تقريراً جديداً بشأن مجموعتين من "الفلول" تعمل على التحضير لعمل عسكري بهدف استعادة السلطة، واحدة بقيادة ضابط المخابرات السابق كمال حسن، والثانية بقيادة رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، مع "غرف عمليات سرية" وملايين الدولارات لتجنيد علويين، ومستودعات سرية في الجبال خزن فيها النظام السابق كميات من الأسلحة!
لا تتعلق هذه الملاحظة بتكذيب محتويات التقرير، بقدر ما تتعلق بالتضخيم الإعلامي لخطر مفترض يهدف إلى "رص الصفوف" في التمسك بسلطة دمشق بصرف النظر عن أدائها، ومحاولة لإسكات أي نقد موجه إليها. إذ أن هناك ما يشبه الإجماع لدى السوريين، بمختلف اصطفافاتهم، في أن النظام المخلوع قد انتهى إلى غير رجعة. العلويون بصورة خاصة دفعوا ثمناً باهظاً بعد "تمرد الفلول" بقيادة مقداد فتيحة في شهر آذار، وكان تمرداً محدوداً تمكنت السلطة من احتوائه بسهولة. فلا أحد يريد تكرار تلك التجربة حتى لو أطلق كمال حسن ورامي مخلوف أو أحد غيرهما تمرداً مشابهاً. بالمقابل لاقى نداء الشيخ غزال غزال للتظاهر السلمي، ودعوته لنظام فيدرالي تجاوباً واسعاً يمكن الاستدلال به للإشارة إلى مدى المظالم التي تعانيها الطائفة من انتهاكات يومية وصرف من الوظيفة الحكومية وإذلال على يد فصائل محسوبة على وزارة الدفاع. ولا يمكن لفقاعات إعلامية كـ"احتفال" أهالي القرداحة المزعوم أن تغطي على حجم الاستياء في صفوف العلويين الذي عبرت عنه تلك المظاهرات السلمية.
أما بشأن "الإنجاز الدبلوماسي الكبير" فمن الغريب نسبه إلى براعة مفترضة للشرع والشيباني في "إقناع" الدول. فبصرف النظر عن قدراتهما الشخصية بهذا الخصوص، لا تقوم العلاقات بين الدول على هذا الأساس، وإن كانت الصفات الشخصية مما قد يعزز أو يقلص الاستفادة من الفرص المتاحة. لم يعد سراً أن عملية "إعداد" "هيئة تحرير الشام" وتأهيلها قد بدأت قبل سنوات من قبل البريطانيين، فلم يفاجأ أحد بزحفها نحو دمشق، في أعقاب وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله مباشرةً، إلا جمهور السوريين بمختلف تموضعاتهم السياسية.
ولم تمض إلا أيام قليلة إلا وبدأت الوفود الدولية تأتي إلى دمشق للـ"تعرف" إلى السلطة الجديدة والتعبير عن "توقعاتها". كذلك ليس سراً دور ولي العهد السعودي في إقناع الرئيس الأمريكي بالتعاطي المباشر مع أحمد الشرع وصولاً إلى استقباله في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. ثم إن كل العلاقات الدبلوماسية للسلطة الجديدة مع المجتمع الدولي هي أعباء عليها أكثر من كونها مكاسب، فهي تثقلها بمطالب تلك الدول ذات المصالح المتباينة، فضلاً عن علاقة بعضها بالشؤون الداخلية. فعلى هذه السلطة أن ترضي واشنطن وموسكو في الوقت نفسه، وأنقرة وتل أبيب معاً، مع تدخل إسرائيل في شأن الدروز في الجنوب، وتركيا في شأن قوات سوريا الديمقراطية من جهة، وفي شأن فصائل "الجيش الوطني" في مناطق انتشار القوات التركية من جهة أخرى.
كل هذا في كفة، ومهمة مكافحة الإرهاب في إطار التحالف الدولي لمكافحة داعش في كفة ثانية ثقيلة جداً لأن هذه المهمة تنطوي على مخاطر اقتتال داخل صفوف فصائل يدين لها أحمد الشرع بتنصيبه رئيساً لسوريا في "مؤتمر النصر" وما زالت خارج سيطرة دمشق على رغم انضوائها نظرياً في إطار وزارة الدفاع. إذا كان ثمة إنجاز للسلطة خلال العام المنصرم من حكمها فهو الإنجاز الإعلامي الذي نجح إلى حد كبير في خلق جمهور موال وفي صناعة كاريزما للشرع لدى فئات واسعة من الجمهور. لكنه يبقى إنجازاً هشاً ما لم يتم تعزيزه بتحسن ملموس في الشروط الحياتية للبيئة الموالية، أما البيئات المعارضة فيحتاج الأمر إلى عقل دولة لا يبدو أنه متوفر إلى الآن لدى السلطة القائمة.
(القدس العربي)

