سلاح المقاومة مرة أخرى

يحفل الخطاب الدعائي والإعلامي للتحالف الإسرائيلي الأمريكي حول نزع سلاح المقاومة في غزة بمغالطات لا حصر لها، ومفردات لفظية عديدة مفارقة للواقع، إن في صورته الراهنة والجارية في غزة والضفة أو غير ذلك من الوقائع والأحداث التاريخية المشابهة بدرجات متفاوتة، سواء في العالم أو في الحالة الفلسطينية على نحو خاص.

هذا الخطاب يزخر بمفردات تزين هذا المطلب فهو أي نزع سلاح غزة والمقاومة تمهيد وشرط لإنهاء الحرب وإحلال السلام والازهار والإعمار ووقف الإبادة، وهي مفردات لا شك تلقى استحسانا وآذانا صاغية من قبل كافة المواطنين في فلسطين أو في غيرها من الدول العربية، لكن فقط بشرط توافر مصداقيتها والوفاء بمضمونها، غير أن الأمر لا يجري على هذا النحو واقعيا، ذلك بأن المعاني والأهداف المضمرة بل والواضحة من الناحية الواقعية بعيدة كل البعد عن إيحاءات هذه المفردات في الوجدان العربي والفلسطيني، لأن المراد في نهاية المطاف هو إخضاع الشعب الفلسطيني، وأن ترفع المقاومة راية الاستسلام للشروط الإسرائيلية الأمريكية، وتجريد الشعب الفلسطيني من مصادر قوته –حتى لو كانت رمزية وقليلة.

والأهم من ذلك أن هذا المطلب يستهدف تفكيك الهوية الفلسطينية التي تمحورت منذ البداية حول المقاومة بجميع أشكالها السلمية والعسكرية، بعبارة أخرى تفكيك السردية الفلسطينية بل وطمسها من الذاكرة، وكأنها لم توجد يوما ما، بالرغم من مضي ما يفوق ثلاثة أرباع القرن منذ إقامة إسرائيل في 1948. من زاوية المغالطات الصاخبة التي يزخر بها هذا الخطاب الدعائي الذي يوغل في دم الفلسطينيين وانتهك كرامتهم الإنسانية، فإنه يحمل سلاح المقاومة مسؤولية الإبادة واستمرار الحصار والتجويع والقتل والعصف بحياة أطفال ونساء وشباب فلسطين، بل وكأن المقاومة وسلاحها هما اللذان تسببا في تعطيل قيام الدولة الفلسطينية، من ناحية أخرى فإن هذا الخطاب لا يمر حتى مرور الكرام على المسؤولية الإسرائيلية أي مسؤولية التحالف اليميني الديني المتطرف واستدعائه للمقاومة بسبب عدوانيته ومستوطناته ورغبته العارمة في شطب القضية الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد.

الخطاب الدعائي الإعلامي للتحالف الأمريكي الإسرائيلي يريد أن يسود صفحة المقاومة ويجعلها مرادفا للخراب والدمار والدماء بهدف تفكيك البيئة الشعبية الحاضنة إن فلسطينيا أو عربيا، باختصار يريد هذا الخطاب شيطنة المقاومة ودفنها في الوجدان والضمير العربي، باعتبارها شرا مستطيرا ينبغي التخلص منه.

محاولات التحالف الإسرائيلي الأمريكي لنزع سلاح المقاومة تستلهم تراثا طويلا من قبل دوائر الاستعمار البريطاني والصهيونية لنزع سلاح مقاومة الشعب الفلسطيني قبل نشأة إسرائيل، عديدة هي المحاولات والإجراءات والقوانين التي اعتمدها الاستعمار البريطاني لوقف إمداد الفلسطينيين بالسلاح وفى الوقت ذاته إمداد العصابات الصهيونية به، غير أن الأمر قد استعصى عليهم ولم ينجحوا في هذه المهمة، بل وعندما توقفت مؤقتا بالداخل بسبب ظروف التواطؤ البريطاني الصهيوني، نشطت محاولات الشعب الفلسطيني في الخارج، وتشكلت منظمات المقاومة، وحصلت على السلاح بطرق مختلفة.

حالات نزع سلاح المقاومة لم يصحبها لا التزام ولا قدرة على تنفيذ الالتزام بحماية أمن المدنيين –ناهيك عن القضايا الكبرى الراهنة مثل إنهاء الاحتلال والاعتراف بدولة فلسطين في حدود عام 1967- رحيل المقاومة من بيروت عام 1982 بعد وعود بحماية المدنيين، تم خرقها فورا في مذابح صبرا وشاتيلا من قبل إسرائيل والقوى الموالية لها، وفي "سربرينتشا" كانت الأمم المتحدة قد أعلنت أن هذه المنطقة آمنة عام 1993 بشرط نزع سلاح المقاتلين البوسنيين مقابل وعود دولية بحمايتهم من قوات صرب البوسنة، وعندما تم نزع السلاح وجرد آلاف البوسنيين منه، قامت القوات الصربية في يوليو 1995 والتي كانت مقيمة خارج حدود المدينة بدخولها وارتكاب إحدى أخطر المذابح في التاريخ الحديث، بينما ظلت القوات الدولية الهولندية تراقب المشهد دون تدخل.

ورغم الفارق الكبير بين أوكرانيا والحالة الفلسطينية فإن نزع سلاح أوكرانيا النووي في 1994 وفقا لمذكرة "بودابست" وبضمانات دولية من روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بسلامة أراضيها، سرعان ما انهارت هذه الضمانات وتهاوت 2014 عندما اجتاحت روسيا شبه جزيرة القرم، واندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في 2022. هذا في حين أن حركة طالبان بعد سقوط حكمها 2001 إثر التدخل الأمريكي بعد 11 سبتمبر، رفضت كل العروض لنزع سلاحها واحتفظت بسلاحها حتى 2018 والتفاوض بينها وبين الولايات المتحدة وتم إبرام اتفاق الدوحة معها 2020.

هذه الحالات جميعها لنزع السلاح، وإن اختلفت جزئيا أو كليا مع الحالة الفلسطينية وغزة، إلا أن القاسم المشترك بينها جميعا هو خيانة الوعود الدولية وعدم الوفاء بها، رغم أن النظام الدولي آنذاك لم يكن قد دخل بعد في طور التآكل والانهيار وكان يؤمل في مصداقيته نسبيا. والحال أن المطالبة الإسرائيلية الأمريكية تستهدف أن تؤمن لإسرائيل تحقيق مطالبها في الإبادة وتجريد الشعب الفلسطينى من مصادر قوته الضئيلة مقارنة بترسانة إسرائيل العسكرية، وتحللها من جميع القيود والمواثيق الدولية والإنسانية، أي إطلاق يد إسرائيل ليس فحسب في فلسطين وإزاء الشعب الفلسطيني بل أيضا في المنطقة العربية.

الحديث عن جدوى السلاح في الحالة الفلسطينية يتجاهل حقيقة أن المقاومة ضد الاحتلال لم تكن يوما مكافئة في القوة للاحتلال، ولكنها تلعب رغم ذلك الدور الأساسى في بناء رمزية المقاومة وبناء الوعي واستنهاض القوى الحية الكامنة في مواجهة الظلم والاحتلال والاضطهاد، لوم الضحية هو أسهل الطرق لتبرئة الضمير وإزاحة المسؤولية عن كاهل حلف التواطؤ الإسرائيلي الأمريكي، وفي هذا الصدد فإن مصر تقدم مقاربة متوازنة تربط بين مسألة السلاح وأي ترتيبات أمنية مستقبلية لعملية سياسية جادة تضمن للشعب الفلسطيني حقوقه السياسية في تقرير المصير، وإنهاء الحصار، ووقف الإبادة للدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة والقدس، وإنهاء حرب الإبادة.

(الأهرام المصرية)

يتم التصفح الآن